الاستغوال أبشع مراحل الامبريالية (5)

بقلم: عدنان الصباح

تدرك الامبريالية الأمريكية جيدا أن قدرتها على البقاء سيدة للعالم وقادرة على التحكم بكل أطرافه مرهونة بقدرتها على التعامل مع مختلف الأنماط في دول العالم وقدرتها على إدارة اللعبة بشكل متواصل واحترافي بحيث لا تغفل شاردو أو واردة وهي تحدد أن مناطق مصالحها الحقيقية تنحصر بشكل رئيس في ما يسمى سياسيا بمنطقة أوراسيا شاملة بذلك اوروبا واسيا وأجزاء من افريقيا عند اعتبار منطقة الشرق الأوسط جزء من اوراسيا والسبب في ذلك ان اوراسيا تحوي اكبر قوة بشرية واقتصادية في تملك 60% من خيرات الارض وثرواتها الى جانب ان بعض دوله تشكل خطرا حقيقيا اقتصاديا وسياسيا على مستقبل الدور الامبريالي الامريكي في المنطقة ولذلك فان آليات العامل مع سائر بلدان هذه المنطقة تأخذ أشكالا وأنماطا مختلفة بل ومتناقضة أحيانا حتى تضمن ولاء هذه الدول وصمتها مما يسهل على الولايات المتحدة استمرار فرض سيطرة القفاز الحريري على العالم وان كان يغطي قبضة فولاذية عند الضرورة لكنها غير ظاهرة للعيان والنماذج على أساليب التعاطي الامريكي مع مختلف مناطق اوراسيا كثيرة ويمكن محاولة حصرها بما يلي:

- عدم قدرة بعض الدول على مواجهة امريكا وقبولها بالدوران في فلك نظامها المالي والسياسي كما هو الحال مع الدول الصناعية الاوروبية ومشاركتها لها في سائر أنشطتها الخارجية والقبول بمنحها قطعة من كعكة المصالح عبر البحار كما هو الحال بحروب التحالف في العراق وأفغانستان وغيرها.

- منح بعض الدول دور قيادي في مناطقها يرفع عن الولايات المتحدة العمل الأسود المباشر كالدور الذي تمنحه لقطر والإمارات العربية المتحدة والتي تدفع من خزائنها لتمويل الحركات السياسية المنفذة للسياسة الامريكية في المنطقة العربية, لدرجة التنافس فيما بينهما كما يظهر من الدورين المتنافسين لهما في مصر حيث تقف الإمارات العربية المتحدة الى جانب نظام السيسي بينما تقف قطر الى جانب الإخوان المسلمين وهذا أيضا يبدو جليا في القضية الفلسطينية بنفس الدرجة وفي حين تختلف السعودية مع قطر في مصر وتتحالف مع مصر في اليمن فإنها أيضا لا تتفق معها في موضوع سوريا

- تدمير بعض الدول القوية اقتصاديا وحرمانها من قدرتها على التطور لحد الخروج عن الطاعة كما حدث مع العراق وليبيا والسعودية كما يرى من خلال ما تخطط لها امريكا بعد توريطها لها في حروب ونزاعات مختلفة أخطرها حرب اليمن وكذا استنزاف قدراتها المالية بدعم حركات التمرد في العديد من البلدان وبالمقابل لا تقدم الولايات المتحدة لها سوى الحماية العلنية الشكلية امنيا مقابل نهب خيراتها بأشكال وأنماط مختلفة كصفقات السلاح

- قبول بعض الدول بادوار ثانوية من خلال نظام التجارة الدولية وتبادل المصالح والتعاون الدولي أو انشغالها بظروفها الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كما هو الحال مع الهند وباكستان حيث تقوم باكستان بدور شرطي أمريكي في المنطقة بينما تنشغل الهند بتطوير تجارتها ومصالحها وقضاياها الداخلية وتحاول الولايات المتحدة القيام بدور الأب الوصي على البلدين في نزاعاتهما التي لا تنتهي.

- منح بعض الدول رشوات سياسية وادوار خاصة بالنظام الدولي محدودة التأثير كما هو الحال في إرضاء إيران بدورها في العراق وأفغانستان

- قبول بعض الدول بما تهبه لها امريكا أو تتنازل عنه لصالحها أكان ذلك في مناطق نفوذ لا تضر بالمصالح الامريكية او لصالح فوائد اكبر او بما يخدم نمو المصالح في المناطق الأخرى وهي اللعبة المتواصلة تحديدا مع روسيا سياسيا وعسكريا ومع الصين اقتصاديا.

- ارتباط الدول الصغيرة الكثيرة اقتصاديا او امنيا بالحماية الامريكية التي لا يستطيع احد منافستها بها كحال قطر وبعض الدول العربية الأخرى وتحديدا الدول الصغيرة او الدول التي تعيش حالة عداء مع جيرانها كما هو الحال مع إسرائيل او الدول الطامعة بدور خارج حدودها كما هو الحال مع تركيا والصين وهي دول تقوم بالأدوار الموكولة إليها بقناعة مطلقة أكان ذلك لأسباب قومية او دينية كما هو الحال مع إسرائيل او لرغبات خاصة بها كما هو الحال مع قطر والإمارات ولو من باب التباهي الدولي واللعب مع الكبار.

- استعداد امريكا لمنح دور مهم وفاعل في بعض المناطق من باب التوافق كرشوة ضرورية لإسكاتها كما يتم التعامل مع روسيا وما ظهر جليا في الآونة الأخيرة من صمت أمريكي على الدور الروسي في سوريا وآليات التعامل الامريكي مع موضوع أوكرانيا والصراعات في بلدان المنظومة الاشتراكية ودول الاتحاد السوفيتي سابقا والتي بقيت روسيا راغبة بإبقاء نفوذها هناك متماسكا وقويا لصالحها.

تاريخيا ظلت قيم العزة والكرامة لدى سائر الأمم مرتبطة بأرضها وقدرتها على حمايتها وبخلاف ذلك فان الاحتلال المباشر للأرض ظل يعتبر عارا على الأمة التي تسكت عن احتلال أرضها وقد شكل احتلال أراضي الغير أسس انهيار الإمبراطوريات عبر التاريخ وقد تكون التجربة النازية الأخيرة أكثر بروزا للعيان ففي حين سعت ألمانيا عبر حوالي ألف عام لتوحيد البلدان الناطقة بالألمانية إلا أنها هدمت كل شيء حين سعت لبسط نفوذها على أراضي الأمم الأخرى بشكل مباشر وهو ما يدركه بعمق صناع الإستراتيجية السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية وبالتالي العسكرية الامريكية فيما يخص السعي الامريكي لإخضاع العالم عن بعد.

كثيرة هي المفاهيم التي تغيرت عبر التاريخ ومنذ الحربين الاستعماريتين الأولى والثانية والتي باتت لدى الشعوب الكثير من قيم الاعتداد بالذات بعيدة عن موضوعة السيادة والأرض وهو ما سعت الفلسفة الامريكية اغرسه بين شعوب الارض وفي ذلك يقول بريجينسكي في كتابه (رقعة الشطرنج الكبرى) ما يلي " وهكذا، نجد أيضاً على نحو متزايد،أن النخب (جمع نخبة) الوطنية الحاكمة أصبحت تعترف ان عوامل أخرى غير الأرض أصبحت أكثر أهمية في تقرير الوضع أو الهيبة الدولية لدولة ما أو تقرير درجة نفوذها الدولي. وإن المهارة الاقتصادية، وترجمتها إلى ابتكـارات تكنولوجيـة، تستطيع أن تكون عاملاً رئيساً من عوامل القوة. واليابان ذاتها تقدم مثالاً رائعاً على ذلك.وبرغم ذلك، فإن الموقع الجغرافي لا يزال يميل إلى تقرير الافضليات الفورية للدولة المعنية، وبالتالي، ٣٩ فكلما ازدادت القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية لدولة ما، ازداد أيضاً يصف قطـر دائـرة مصالحها الجيوبوليتية الحيوية، ونفوذها، وتدخلها، على نحو يتعدى جيرانها المباشرين" وهذا يعني بوجه آخر ان نصف قطر الولايات المتحدة يمتد بحسب قوتها العسكرية والسياسية والاقتصادية أيضا بما يمكنها من ان تصبح كل بقاع اوراسيا الكبرى التي تضم لها كل سيبيريا عند الضرورة .

ان فلسفة الإمبراطورية الامريكية الجديدة القائمة على العبر المستقاة من تاريخ سقوط الإمبراطوريات تقوم على المحاور السياسية التالية:

- منع اقتتال الحلفاء مع إشغالهم كليا بصراعات جانبية في مواقع الآخرين لصالح الأهداف العليا المشتركة من حيث المظهر بحد أدنى بما يضمن الولاء في التنفيذ.

- إشغال الأعداء او الشريرين حسب التعبير الامريكي بصراعات لا تنتهي كما فعلت تاريخيا بين العراق وإيران ثم بإيران وسوريا مع الآخرين وهكذا.

- الإبقاء على قيم معنوية وترسيخها أكثر وأكثر كمبررات للدور الامبريالي الامريكي.

- خلق الأعداء بشكل متواصل وحتى إنجابهم عند الضرورة وإسنادهم للقيام بدور هام ورئيس يمكن الإمبراطورية الامبريالية الحديثة من لعب دور الحامي الضروري وبرغبة الحلفاء والقيام بدور البطل المنقذ كما كان الحال في احتلال الكويت والتهديد العراقي لدول الخليج وهو ما تحاول ان تسوقه من جديد بصورة إيران وسوريا هذه الأيام.

يوضح بريجينسكي رؤياه بعد نقله نصا للشاعر والمسرحي الانجليزي روبرت براونينغ الذي يقول " إن هدف الإنسان يجب أن يكون أكبر مما يستطيع فعله، أو ما يعتبر بالنسبة إليه، سماء أو جنة له ؟" ( ثم يتابع بريجينسكي ). وهكذا، يجب على هذه الدول أن تحسب بدقة قوة أميركا، وتقـرر المـدى الـذي تستطيع فيه أن تتجاوز هذه الدولة او تصطدم بها، وفي ضوء ذلك تـضع أهدافها الأوراسـية المحدودة نوعاً ما، والتي قد تتصادم أحياناً، أو تتوافق في أحيان أخرى مع سياسات أميركا. ولذا يجب أن تعير أميركا اهتماماً خاصاً إلى الدول الأوراسية التي تملك مثل هذه الحوافز", إذن فهكذا ترى الامبريالية الامريكية الحديثة كن قويا ليهابوك ثم دعهم يلعبون من حولك بما لا يؤثر جذريا عليك حتى لا يستفيقون ان أغلقت عليهم الدروب كلها.

بقلم/ عدنان الصباح