مما لا شك فيه ان الولايات المتحدة الامريكية تفتح عيونها جيدا على الدول الفاعلة في المنطقة الاوراسية وتحرص على تصنيف ومتابعة سائر المتغيرات في هذه البلدان وهي تدرك أهمية المتغيرات التي طالت المنطقة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتحرص على ان لا ترث امبراطورية روسية جديدة تركة الاتحاد السوفيتي بعد ان غادرته دول مهمة مثل أوكرانيا وأذربيجان وترى الولايات المتحدة في هاتين الدولتين بيضة القبان لاستعادة او عدم استعادة روسيا لدورها القديم فأوكرانيا بما لديها من ثروات ضخمة وتعداد ساكني مهم وأذربيجان كصمام أمان لبحر قزوين وبوابة الدول المجاورة الى العالم الصناعي المستهلك للنفط ان هي تمكنت من إيجاد وسائل وتواصل مع الغرب بعيدا عن الهيمنة الروسية فإنها ستشكل حلقة إضعاف لروسيا
في هذا السياق تظهر الأهمية المتنامية لدور تركيا وإيران الإسلاميتان في دفع دول الاتحاد السوفيتي سابقا للابتعاد عن الدب الروسي الراغب في استعادة مكانته من جديد والذي يرى في الولايات المتحدة عدو أصيل ومنافس خطير على السيطرة الدولية ولذلك تظل مصلحة الولايات المتحدة في الوجه الإسلامي المقبول لتركيا كبيرة كونها ضامن مشارك للناتو على البحر الأسود فيما تلعب إيران نفس الدور في نفس المنطقة وان لأسباب مختلفة إلا ان ما يوحد الموقفين هو الابتعاد عن روسيا وهي المصلحة التي ترغب فيها الولايات المتحدة وهذا ما يفسر إصرار الولايات المتحدة على إيجاد حلول سلمية للازمة النووية مع ايران.
هذا يقودنا من جديد الى ادراك الأسلوب الامبريالي الأخطر في التعاطي مع دول العالم او مع رقعة الشطرنج الكبرى كما يحلو لبريجينسكي ان يعنون بها كتابه ( رقعة الشطرنج الكبرى ) فهو يقول عن كل من تركيا وإيران ما يلي " ومهما يكن الأمر، فإن كلا دولتي تركيا وإيران هما دولتان محوريتـان جيواسـتراتيجيتان مهمتان بصورة رئيسية. فتركيا تؤمن الاستقرار في منطقة البحر الأسود وتسيطر على مداخلـه من اتجاه البحر الأبيض المتوسط وتوازن روسيا في القوقاز وتستمر حتى الآن في تقديم الترياق للأصولية الإسلامية، وتخدم بوصفها مرسي جنوبياً لحلف الأطلسي. أما تركيا غير المستقرة فمن المحتمل أن تثير المزيد من العنف في دول البلقان، الجنوبية كما تسهل إعادة فـرض الـسيطرة الروسية على الدول المستقلة حديثاً في القوقاز. وكذلك، فإن إيران، وبالرغم من غموض موقفها إزاء أذربيجان، تؤمن على نحو مماثل الدعم المسبب للاستقرار في النسيج الـسياسي المتنـوع الجديد لآسيا الوسطى. وهي تسيطر على الساحل الشرقي للخليج [العربي]، بينما يعمل استقلالها، ٤٨ وبالرغم من العداء الإيراني الراهن للولايات المتحدة، كحاجز لأي تهديد روسي في المدى البعيد للمصالح الأميركية في منطقة الخليج [العربي[ . "
يدرك المراقبون جيدا ان تركيا ولدت من رحم الإمبراطورية الإيرانية التي ظل لها دور إقليمي مهم وان قدرة الثورة الإسلامية على النهوض من جديد لما لإيران من تأثير إقليمي ولما تحويه من قدرات اقتصادية ساعدتها في مد نفوذها الى خارج حدودها وسهلت لها لعب دور إقليمي مهم مستفيدة من الأوضاع في المنطقة العربية تحديدا ومن الصراع العربي الاسرائيلي ومن حاجة قوى المقاومة الى دعمها فتقدمت ايران كقوة إقليمية خطيرة تحمل أهدافا عقائدية واضحة وهي العقيدة الإسلامية الشيعية منا يشكل خطرا على المحيط السني المرتبط بأمريكا بشكل او بآخر وعلى المصالح التركية سلسلة الإمبراطورية العثمانية والحالمة أيضا كغيرها باستعادة السيطرة من جديد أكان ذلك لأسباب قومية اقتصادية مغلفة برؤيا إسلامية سنية محبذة لدى كثير الجهات في المنطقة ولذا نجد تقارب في المرتكزات لدى الإمبراطوريتين السابقتين الإيرانية الشيعية والتركية السنية وقد لعبت ايران الدور بأفضل ما يكون فهي كثيرا ما راوحت لعبها أمام عين الولايات المتحدة في المنطقة مع روسيا كأنما لتقول للولايات المتحدة أنها لا ترغب بان تبتعد لكن للضرورة أحكام إلا إذا عدتم لنا فسنعود لكم.
ايرن وتركيا إذن محوريتان للمصالح الامريكية وهما لهذا لا يجوز التفريط بهما ومن هنا كان الإدراك الامريكي لأهمية التنازل لتركيا عن دور فاعل في المنطقة خصوصا في الموضوع السوري وقد كانت تركيا اكبر المستفيدين فيما يجري في سوريا والعراق الى جانب ايران كل من جانبه فإيران المسيطرة على المناطق الشيعية في العراق والداعمة للنظام غير السني في سوريا وجدت لنفسها مكانة اللاعب الجيواستراتيجي الهام الذي لا يمكن التغاضي عن مكانته فهي لاعب هام في أحداث وأوضاع أفغانستان العراق وسوريا ولبنان وتشكل خطر في البحرين والكويت والإمارات والسعودية ولاعب رئيس في أحداث اليمن فهي إذن فرضت نفسها كقوة إقليمية ولاعب خطير في السياسة الدولية وسعت لترسيخ ذلك في البحث عن بطاقة العبور الى النادي النووي في العالم.
الولايات المتحدة تدرك ان المنطقة العربية ساحة مفتوحة للجميع وان إمكانية ان يلعب العرب دورا فاعلا بات أشبه بالخرافات فهي إذن قادرة على ان تحرك المنطقة كما تشاء ويجوز لها ان تجد من يشاركها ذلك خادما فالمصلحة التركية باستقدام كل الآلة الاقتصادية السورية إليها والحلول مكان السلعة السورية في السواق العربية وتحويل الصناعات السورية الى صناعات تركية والإبقاء على الالتهام القديم للأراضي السورية في ظل دولة سورية مفككة ومجزأة والحفاظ على مكانتها في التقاسم العميق لأراضي كردستان وهو ما تشاركها به ايران أيضا يقابله سعي إيراني أيضا للعب الدور نفسه وان ببعده السياسي في سوريا كبوابة للدور الأخطر في العراق ذلك يعني ان الولايات المتحدة تركت لهاتين الدولتين ان تلعبا ما تشاءا هناك فقد سمحت لنفسها بغض الطرف عن الدور الروسي الإيراني في سوريا مقابل صمت مطبق عن دور معقد آخر أمريكي إيراني وأمريكي تركي في العراق وذلك قد يقود الى تعقيد اخطر في لبنان واليمن مقابل صمت إيراني عن أي دور في البحرين والإمارات والكويت المهمة للمصالح الامريكية في المنطقة والتي ترغب الولايات المتحدة في الإبقاء على استقرارها في الوقت الحاضر مع الإبقاء على الدور الأبرز لقطر المتصالحة طائفيا والأقل خطر في التركيبة السكانية والأكثر ولاءا وانخراطا علنيا وعمليا في المشروع الامريكي في المنطقة.
ما تقدم يتبين وجود تقاطعات واضحة في المصالح الإيرانية التركية في المنطقة فكلتاهما متشاركتان باقتسام كردستان وهو ما تشاركهما به سوريا والعراق المفككتان فهناك إذن مصلحة في السيطرة على الأوضاع في سوريا والعراق وإيران الشيعية تقابلها تركيا السنية وهو ما يجعلهما أيضا يتصارعان على المكانة في الخليج العربي السني في أغلبيته مع وجود مؤثر للشيعة أيضا مع ما تحويه دول الخليج من ثروات مهمة وموقع مهم وفاعل في المعادلة الجيوسياسية يطال كل معادلة الشرق الأوسط والدور الاسرائيلي والمصالح الامريكية ومصالح الدول الصناعية الكبرى هناك فالحالة اذن هي حالة توازن مصالح تؤثر بها الولايات المتحدة في كلتا الحالتين.
تبقى السعودية البلد الأكثر ثراءا وشيخوخة في نفس الوقت والتي لا تجد سبيلا للانفكاك من المصالح الحيوية الامريكية في المنطقة وتشكل عمليا الذراع المالي والفولاذي للولايات المتحدة ولذا وجدت الولايات المتحدة لنفسها فرصة في إشغال السعودية في الوحل اليمني ومعها مصر لصرف أنظارها عن ما تخطط له في سوريا مع روسيا وإيران وتركيا وقد ظهرت جليا هذه التفاهمات في الأحداث الأخيرة في حلب وإطلاق يد النظام السوري هناك وإدارة امريكا أعينها بعيدا عن ذلك لتسهيل عملية سيطرة النظام على المدينة الأهم هناك.
تسعى الامبريالية الامريكية لان تجد متسعا للجميع تحت مظلتها إلا الشعوب فالجميع هنا هي جميع النخب والقوى التي تحتاجها لتمرير وتسهيل مهمتها بسرقة كل ما يمكن ان تطاله يداها مباشرة بقفازاتها الوسخة دون ان يؤثر ذلك على قدرتها على ذر الرماد بالعيون بحكاية الديمقراطية وثقافة الحرية والآخر, فالآخر المقبول لها هو الآخر الذي يعبر عن طموحاتها ومصالحها وكل ما عدا ذلك فهو آخر شرير فبنفس الوقت الذي تعتبر به نظام البعث في سوريا ديكتاتوريا ترى في نظام السعودية حليفا ليبراليا جميلا وتشجعه على مد يد العون لكل التنظيمات الاسلامية المسلحة التي تحاربها امريكا بيد اخرى ومكان آخر دون خجل.
بقلم
عدنان الصباح