يعبر ملك العود وصوت الفقراء مارسيل خليفة عن شوقه لتوأم روحه محمود درويش ويبحث عنه في القصيدة والموسيقى علها تخفف عنه وطأة الحاضر المأزوم والأفق المسدود. مع تقدم الأيام يعود مارسيل للبدايات فيبحث عن طفولته وينفث بعض حنينه الملتهب لوالده وما زال يجد أمه التي رحلت مبكرا، في فيروز. بطبيعة الحال يجد بعض السلوان بولديه رامي وبشار، وبثلاثة أحفاد وحفيدة يكبرون على وقع أناشيده المتشبثة بالأمل والحياة الكريمة. في بروكسيل قابلنا وجها لوجه من كبرنا على أغانيه ضمن واحدة من أجمل احتفالياته ولاحقا تسنى الحديث معه حول دروب الماضي والحاضر فعدنا للسيرة والمسيرة مبكرا وتوقفنا عند بعض محطاتها ولم يكن ممكنا أن ندخل معه بحوره فهي واسعة ولا نهائية، عن رفيقه الذي حوله من جماد لكائن فوار بالحياة، العود يعود مارسيل خليفة للخطوات الأولى فيقول بما يشبه سرد رواية أدبية مدهشة بسلاستها وشفافية معانيها وبوحها بالحقائق "في مساء بعيد دخلت آلة العود إلى بيتنا الصغير بعد أن كانت آلاتي الموسيقية محصورة بالطاولات والكراسي والطناجر وعلب الحليب الفارغة وقصب الغزّار اليابس. كنتُ أرى العود في الصُوَرْ وأحياناً قليلة في التلفزيون أسمع صوته في الراديو ولكن أن يكون معي في البيت! كان عيداً حقيقياً يوم وصول هذه الآلة الموسيقية الساحرة.
في اليوم التالي ذهبت مع أمي إلى منزل حنّا كرم ذلك الدركي المتقاعد الذي يعرف القليل من النوتة الموسيقية وما حفظه من موسيقى الدرك. تابعت ترددي إلى منزل الاستاذ مرتين في الأسبوع، حيث تلقفت خلال ثلاثة أشهر دروسه الموسيقية الابتدائيّة. بعدها نصح أهلي أن أتابع تحصيلي الموسيقي في الكونسرفاتوار الوطني في بيروت والبعيدة جداً في مقياس طرقات ذلك الزمن عن ضيعتي في جبل لبنان، ودخلت صف الاستاذ الكبير فريد غصن العائد من هجرته المصريّة ليدرّس في المعهد المذكور. كنت في السادسة عشرة من عمري آتياً من قريتي إلى المدينة لأدرس الموسيقى إلى جانب الدروس العادية وكنت في طريقي إلى بيروت أرى على مداخل المدينة وضواحيها المخيمات الفلسطينيّة وبيوت الصفيح وحتى في ذلك الحين وفي ذلك العمر الفتي لم أكن أعرف شيئاً عن فلسطين ولا سيّما أهل الجبل اللبنانيّ. بعد حرب الـ67 بدأتُ أعي هذه القضيّة وأوليها اهتمامي. وقتها تداخلت القضايا السياسية المحليّة، العمليات في الجنوب، إطلاق الرصاص على مظاهرة عمَّال التبغ واستشهاد المزارع حسن الحايك وغنيتُ بعدها من شعر شوقي بزيع "يا حادي العيس" والمهداة للشهيد حسن الحايك. وعن مرحلة بدء اشتداد ساعده الفني يضيف "أمسيات فنية أقمتها عبرتُ فيها عن حبي للقضية، للشعب والوطن والخبز والورد وكان "نشيّد الموتى" للشاعر السوداني محمد الفيتوري الذي لحنته وتردد على ألسنة الناس في كل هذه الأماسي. مهرجان مدينة جبيل "بيبلوس" أيضاً كانت تجربة رائدة حيث قدمت أوبريت "مرق الصيف" سنة 1971 كما شاركت في مسابقة المجمع العربي للموسيقى بموسيقى "سماعي بياتي" تونس 1973. كنت من المتخرجين الأوائل في الكونسرفاتوار وهذا لم يمنع من أن تفوز مقطوعتي "سماعي بياتي" إلى جانب مقطوعتين لأساتذتي عبد الغني شعبان ونجيب كلاب.
الإسطوانة الأولى
ويمضي مارسيل بالاستذكار: في صباح باكر من آب/اغسطس سنة 76 دخلت أحد استديوهات باريس الصغيرة وسجلت "وعود من العاصفة" أولى أعمالي لدرويش وقبل أن أتعرّف عليه شخصياً وبعد أخذ ورد مع مسؤولي شركة الأسطوانات الفرنسية "الغناء في العالم" ظهرت الأسطوانة الأولى في احتفالات جريدة "الإنسانية" وكانت أول تظاهرة لهذا العمل على خشبة الجناح اللبناني في ضاحية باريس الشمالية بالقرب من بسطة للحمص والفول والفلافل ولقد تضمنت الأسطوانة أربع قصائد لدرويش: أمي، ريتا، جواز السفر ووعود من العاصفة وقصيدة "جفرا" للشاعر عز الدين المناصرة. وعلى مسار تاريخ طويل من القصائد والأغنيات والموسيقى كان التلاحم الدافئ بين القصيدة والموسيقى. في كل عمل كنت أتعلَّم كيف أحمي الموسيقى من الفضيحة والقصيدة من الابتذال. في كل عمل جديد كنت ابدأ من الصفر كما لو أنني لا أعرف شيئاً وكل محاولة كانت قفزة في الظلام ولقد ارتكبت أخطائي الفاتنة وكنت دائما مع القصيدة ومع الموسيقى التي تشكّل فعل مشاغبة عصياناً وجودياً نزعة إلى الافلات من القطيع ودعوة إلى المستمعين لارتكاب الشغب نفسه.
ومع تدفق الذكريات كان السؤال عن شاعر فلسطين الذي عشقه وحول الكثير من كلماته للحن ينساب كقطرات الندى على خد وردة جورية. عن الغائب الحاضر يقول مارسيل " الأمر مع محمود درويش كما لو أنه أغنية، موسيقى، تاريخ، أمكنة، هي حاجة ملحّة إلى أن أقول كل شيء لأتخلّص من ثقل أشياء عدّة ترمي بثقلها على الذاكرة كما على الجسد والروح. أبحث كل يوم عن جديد في شعر درويش. كانت موسيقاي لشعر درويش تنحو باتجاه الشكل الدرامي والتأليف الغنائي الحرّ غير المسجون في ضوابط محددّة سلفا. لقد بحثت مع درويش عن أغنية تقودنا إلى المستحيل، ترشدنا إلى الدروب المجهولة لنبلغ سرّ الفرح. لا أستطيع أن أشرح بالكلمات ما كتبت من موسيقى لقصائد ولكن أستطيع أن أقول أن شعر درويش تشرِّد في أعماق قلبي الذي دقّ بإيقاعية صادحة ولا أعرف كيف أهدئه. أشتاق إلى محمود درويش وقصيدته المبللة بالندى، لعلّ المكان ينتبه لأغاني الحب التي ترددت في البلاد القريبة والبعيدة، أغانٍ شردها الغياب وغسلها سحاب ليل ينام بين الأمواج تقطفه الحناجر وتطويه زغرودة الانتظار".
وعن قيثارة لبنان الأبدية يقول مارسيل بكثير من الحب الدافئ: لولا فيروز لكنت يتيم الأمّ، كنتُ أحمل سنين قليلة وأمشي ولداً على الطريق الطويل في اتجاه الأغنية أبحث عن أمي. "وحدنا يا ورد راح نبكي" هذا هو طعم أغنية فيروز الأول فتشتُ فيها عن أمي وبعد سنين، فتشتُ عن حبيبتي، وفتشت فيها عن وطني وليس المكان الذي ولدت فيه هو وطني، كان صوت فيروز وأعمال الأخوين رحباني وطني، شموع كثيرة تُضاء كل يوم لفيروز، لكنّا أقل من الشموع التي أضاءتها طيلة هذه السنوات مع الأخوين رحباني للعشّاق للحب للحرية وللوطن.
وعن حضرة الأبناء في ظل غياب الآباء يقول معتدا "أرابط اليوم مع رامي وبشار خليفة لندافع عن حريّة الأجنحة، ولقد حقّق هذا اللقاء في الثلاثي الذي أسسناه المصالحة بين الوجدان الشعبي العام وبين الموسيقى لننتقل إلى سدّة التجريب الذي يستثير حاسة التأمل. حوار بين الموسيقى وصور الحياة في تأليف متنوّع، ينتج بساطة وعذوبة. بدأنا من صفر كما لو أننا لا نعرف شيئاً وكل محاولة هي قفزة في الظلام. موسيقى تدعو إلى مراجعة الذات، تعرية الذات، موسيقى تشكّل فعل مشاغبة عصياناً وجودياً نزعة حادة للإفلات من القطيع، دعوة الآخرين لارتكاب الشغب نفسه. صرخة جريئة من أجل الحريّة لنشتبك مع هذا الدوران المدهش الذي يحدث للعالم وإن لم نكن منخرطين فعلياً في الشغب الذي لا بدّ منه، لن نتمكن من المساهمة في الإجابة عن الاسئلة المطروحة وإلى التعبير وخلق الحوافز في لغة جديدة لوعي حركة المجتمع والناس. ليس ارتباط الموسيقى ببيئتها وبالظروف الاجتماعيّة الجديدة وبازدياد الوعي يطورها، بل قدرتها على الاغتناء من مجمل الفكر والتكنولوجيا الذي تخلقه تقاليد أخرى تكون أحياناً مختلفة جداً. هذه العملية تأخذ طابع التبادل المشترك. رامي وبشار منذ صغرهما كسرا معايير آلاتهم الموسيقية. بقلقهم خلف آلاتهم الموسيقية في ذروة الاندماج الساحر وطقس الموسيقى صعب المراس اذا لم يأته عازف ومؤلف خبر تقلباته. ميل وجموح للتوحّد مع الآلة بعد أن ضجّت الذات بمخزون صنوف الموسيقى. بدون شك ليس الأمر سهلاً أن تنعقد الموسيقى على هذا القدر من الخلق والتمكّن لو لم يجيء أصحابها من التمرين والمرجعية الوافرة. وبهذا المعنى لا غرابة أن نقدِّم سوياً عملاً مشتركاً من تأليفنا، نذهب إلى مجهول غامض نحبّه غامضاً دائماً في المستقبل، لنطوّر لغتنا ونحميها من التكرار والإرهاق بثقة متبادلة بعلاقة متجددة مع تجدّد الذائقة والعصر والزمن والحداثة والمعاصرة وعلى قابلية حضور العمل في زمن غير الزمن الذي ولد فيه. إن الإنسان الحر هو الذي يستطيع أن يفارق ذاته الضيقّة إلى المطلق كمسافر جوّال والحياة تكتسب معناها من تحقّق هذا السفر المستمر. ليست لدينا معجزات، لدينا مخيلة وأحلام وحريّة الأجنحة وليس أمامنا سوى الذهاب إلى الأفق البعيد مع الطيور العاصية، لأن الإبداع توغّل في غموض ما لا يعرف. رامي وبشار يخوضان رحلة جديدة مع مشروعهما الشخصي وكان التواصل بدأ منذ عام 2000. عمل الثلاثي هو عمل إبداعي جديد فيما يحمله من مؤلفات لنا جميعاً في صياغتها وتنفيذها وأدائها غناء وعزفا وتعبيرا فنيا. يتحاور العود والبيانو والإيقاع في نغمة أو عبث في ضوضاء أو حب".
سحر الأغنيات والمرأة
وعن سحر الفن وفعله في الروح يقول مارسيل "أكثر ما يعنيني في هذا الملّف هو إنسانية الفن وقدرته على إعادة الدهشة من جديد وذلك عبر الرحيل مع كلماتكم الحرّة لإشعال شمعة ولعن الظلام في آن. يمر الزمن والعمر والسنوات. ربما لا أشعر بتلاشي السنة من الروزنامة. كنتُ فيما مضى أباً لولدين ثم أصبحت اليوم مأخوذاً بثلاثة أحفاد وحفيدة مُدهشين يكبرون في البعيد أذهب إليهم كلما سنحت لي الظروف أرقبهم من بعيد تماماً مثلما فعلت مع أبنائي. أنا أكثر حريّة اليوم مما كنتُ عليه في مراحل النضال الأولى عندما كانت السلطات تهندس مبادراتي كفعالية فنية. كل هذا التعب وهذا التمرّد وهذا الحب، كل ذلك يشعرني بإنسانيتي ويدفعني إلى مزيد من الموسيقى والغناء والحياة. كنت أترك أغنيتي تعالج أوجاع الحب. أفرحني الحب وأوجعني أيضاً. كان يكفي للمرأة أن أضع أقدامها في هذه الحياة لتعطي طعماً للحياة. المرأة سيدة حياتي. المرأة معجزة لا حدّ لها وأحسّ دائماً بأنني محظوظ لأن عندي أم وأخت وحبيبة وحفيدة. تلك معجزة لا حدّ لها.. يا الهي، أني أحب".
وعن المحبوبة يقول بمجازيته الشاعرية: هي من يتردّد صداها في أغنياتي، أشعر بوجود امرأة فيّ، وأحلم أن أعود ابناً لأم تكون في الوقت نفسه كل وجوه المرأة. لنا الحب". نقلا عن صحيفة "القدس العربي"