قدر لي أن أتردد ليومين متتاليين على معبر رفح البري ، ورأيت فيه ما لا يسر عدوا ولا صديق ، آلاف من البشر ، من منهم من تكدس في صالة في خانيونس تمهيدا لمحاولة نقلهم عبر حافلات إلى المعبر ، آخرين مكدسين عند بوابة المعبر ولمسافة تقدر بمئات الأمتار بعيدا عنه ، تحت أشعة شمس حارقة لا ظل ولا ظليل يقي من حرارتها ، والجميع يحدوه الأمل في الانتقال إلى الجانب الآخر ، هذه زوجة مع أطفالها تريد اللحاق بزوجها ، وهذا طالب لديه فرصة للالتحاق بإحدى الجامعات الأوروبية ، وهذا خريج أنهكته البطالة سنحت له الفرصة للحصول على فيزا لبلد أجنبي لعله يعثر على فرصة فيها يعيش حياة كريمة ، وأخر مريض ووو ، عشرات الحالات كل له ظروفه ، شعب أو جزء من شعب ناهز تعداده المليونين فرض عليه حصار جائر من العدو ومن الصديق ، تقف وترى وتستمع إلى المواطنين الذين ترى في وجههم علامات الإعياء والقلق والترقب ، وبكل أجسادها وحواسها تتجه إلى بوابة المعبر كأنه قبلة للصلاة أو العبادة ، قصص ومختطفات تسمعها هنا وهناك ، تنسيقات سفارة ، تنسيقات مصريين ، تنسيقات حماس ، وأحاديث عن دفع نقودا أي رشاوى مقابل العبور ، من أين تأتي لا ادري ، ولكن في معظم الأحوال ترى الهواتف على الأذان باستمرار . وهكذا تتجسد المأساة الإنسانية بعينها ، وهكذا شعبنا منذ تسع سنوات لم يتبق منها إلا بضع أسابيع حتى نقول بالتمام والكمال .
لماذا هذه المأساة ، لماذا كل هذا ، اعتقد ومن خلال متابعتنا لكل ما يجري فإن معبر رفح حاجة ملحة ، وضرورة إنسانية بكل جوانبها الاجتماعية والاقتصادية ، إنما هي خاضعة لتجاذب خيوط سياسة المصالح ووطنية السياسة ، مصالح فيها الشخصي وفيها الفئوي والحزبي ، وخيوط السياسة التي فرضتها عوامل الانقسام الفلسطيني أولا ، والمتغيرات السياسية في المنطقة العربية منذ اندلاع ما يعرف بثورات الربيع ، لتنعكس بشكل مباشر على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة لأنه الجهة الأضعف في كل الأحوال ، ورغم كل هذه العوامل نعود ونصر على السؤال لماذا؟، الم يكن معبر رفح مفتوحا زمن الاحتلال الإسرائيلي ، وكان المرور منه للجميع بلا استثناء متاحا وبكل سهولة ويسر، صحيح هناك ممارسات قمعية من قبل الاحتلال ولكن لم يكن هناك تكدسا ولم يكن هناك إغلاقات ولا تنسيقات ولا تسجيلات وحجوزات ولا حافلات ، فقط احمل جواز سفرك واشتري التصريح الأخضر من أي كاتب تصاريح وتتجه إلى المعبر لتنزل من السيارة على بوابة صالة الخروج ، فلماذا تغيرت الأحوال ، ووصلنا إلى هذه الدرجة .
جميع المسئولين بدءا من الرئيس إلى اصغر مواطن يدرك هذه المعاني ويطالب بفتح المعبر ، جميع الفصائل والقوى تطالب بفتح المعبر بما يليق بالكرامة الإنسانية ، والغريب أن كل من السلطة الفلسطينية وحركة حماس المسيطرة على قطاع غزة يعلنون دائما أن لديهم الاستعداد لفتح المعبر ، ولكن لكل له شروطه ، لكل له رؤيته ، هذا من جهة ، الطرف الآخر لديه رؤيته ، فمصر تعلن دائما عن استعدادها لفتح المعبر شريطة تسليم المعبر إلى السلطة الفلسطينية برئاسة الرئيس عباس .ولا نريد أن نخوض في تفاصيل هذه المواقف تفاصيلها معروفة للقاصي والداني .
ويبقى شعبنا ضائعا تائها بين هذه الرؤى والمواقف الثلاث ، والحقيقة هو موقف واحد موقف ثلاثي ضد هذا الشعب المغلوب وهنا ولا يؤاخذني احد الجميع حماس أولا ، والسلطة ثانيا ومصر ثالثا يشتركون في إذلال ومحاصرة هذا الشعب ، وكأنه خشبة مسرح يلعبون عليها ويضربونها بأقدامهم حتى تصدر صوت أنينها وأوجاعها من شدة الضرب ، وهم يتلذذون بها كأنها صوت موسيقى تصاحب المسرحية . هذا بصراحة حال المشهد وارجوا أن أكون قد أحسنت التشبيه .
السؤال الآن إلى متى ، سيبقى هذا الحال ، مثلنا الشعبي يقول الضرب في الميت حرام ، وشعب فلسطين في غزة كالميت لم يتبق له شيء من أسباب الحياة الكريمة ، إلى متى سوف نظل تحت نيران وسياط ذوي القربى .
بعد تسع سنوات من السجالات الم يحن الوقت لمعرفة أن :
- حركة حماس لن تسمح بفتح المعبر إلا بشروطها وحسب رؤيتها .
- السلطة لن تسمح بفتح المعبر إلا حسب رؤيتها وشروطها .
- مصر لن تفتح المعبر إلا حسب رؤيتها وشروطها ومتطلبات سيادتها على أراضيها .
أمام هذه المعضلات إلا من مخرج لمصلحة هؤلاء الناس الذين في اغلبهم لا علاقة لهم بمواقف كل الأطراف . مخرج يلبي جميع الرؤى إلى ان يجعل الله لنا مخرجا ، مخرج ترضى فيه حماس وترضى فيه السلطة وترضى فيه مصر ، اعتقد انه يمكن ولا بد أن يكون .
اعتقد وللخروج من هذا المأزق لا بد من كل مواطن في قطاع غزة وعلى مختلف مستوياتهم الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية إدراك وتفهم الحالة المصرية وما تعبر به الجهات الرسمية المصرية عن الأوضاع الأمنية في سيناء وعلاقتها بفتح المعبر . ولكن مع هذا لا نغفل الحالة الإنسانية في قطاع غزة ، وباديء ذي بدء لا بد إلى الإشارة إلى موقف مصر المعلن بان مسئولية قطاع غزة هي مسئولية الاحتلال الإسرائيلي لان قطاع غزة ما زال خاضعا للاحتلال ، نعم ما زال قطاع غزة خاضعا للاحتلال حسب القانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة ، ولكن لا ننسى أن الاحتلال استمر في قطاع غزة مدة 27 عاما يدير قطاع غزة إدارة مباشرة ، وان موظف المعبر على الجانب الفلسطيني كان جنديا احتلاليا . وكانت الأمور تجري على ما يرام ، فاليوم موظف المعبر هو فلسطيني من أبناء قطاع غزة بغض النظر عن الانتماء السياسية إنما ليس جنديا احتلاليا.
ثانيا أن الاحتلال مازال اسمه احتلال فهو يفرض القيود بشدة للمرور من معبر ابرز و يحتاج المواطن للانتظار أسابيع قبل أن يعرف السماح له من عدمه من مغادرة قطاع غزة إلى الضفة ومن ثم إلى الأردن ، اصف إلى ذلك الإجراءات الأردنية الجديدة حيال أبناء قطاع غزة والتي زادت من صعوبات تنقلهم .
يبقى لا ملجأ لنا إلا الشقيقة الكبرى مصر التي تربطنا بها كل الروابط لا بعضها تاريخ وجغرافيا واجتماع واقتصاد وو. .
اعتقد انه يمكن الخروج من هذا المأزق عبر المقترح التالي :
أولا : أن تقوم السلطة الفلسطينية وعلى رأسها الرئيس محمود عباس بدعو مصر لفتح المعبر لعدة أسابيع متتالية بمعدل ثلاث إلى أربع أيام في الأسبوع ، وفي خلال فترة قليلة سيتم القضاء على أزمة المسجلين حاليا للسفر ، وأقصى فترة لن تتجاوز أربع أسابيع ، بعدها سيعود حجم المسافرين إلى طبيعته بأعداد قليلة .
ثانيا : تشكيل لجنه وطنية من جميع الفصائل للقيام بتسجيل الراغبين في السفر وفق الحاجات بحيث تشمل جميع الفئات والمواطنين حتى السياحة الأولوية . والتنسيق مع سفارة فلسطين في القاهرة عبر مندوب لها في المعبر على الجانب المصري لتذليل الصعاب والمشاكل التي تواجه المسافر بما لا يتعارض والقانون المصري وتعليمات الأمن المصري .
ثالثا : وجدود لجنة مراقبة منبثقة عن اللجنة الوطنية في معبر رفح لدى الجانب الفلسطيني لمراقبة ومتابع سير العمل وإبداء الملاحظات وإبلاغ مسئولي المعبر لتفاديها .
.
اعتقد بذلك تنتهي مشكلة المعبر إلى أن يتم حل كل المشاكل والخلافات الأخرى العالقة بين الفلسطينيين بعضهم البعض لكي لا تبقى حركة المواطنين مرهونة بهذه الخلافات .
أكرم أبو عمرو
غزة – فلسطين