الأمة العربية التي عُرفت بعظمة تاريخها وحضارتها وثقافتها ومكانتها الدينية وموقعها الاستراتيجي وثرواتها الهائلة، بدل أن تستوعب الدرس وتستلهم العبر من تلك الأمم وتتمثل بها وبما فعلت وتحذو حذوها في إصلاح أوضاعها وأوضاع أبنائها طلباً للنجاة، رأيناها وللأسف تألف الاستكانة والهوان وتحتفظ لنفسها بالضعف والوهن وتستسلم لمقاديرها، كأن النكبات والنكسات والهزائم والكوارث والمحن استوطنت في داخل الوطن العربي وأصبحت جزءاً مكملاً وضرورياً لكيانها ونسيجها الحياتي، وبالأخص في القرن الماضي والعقد الأول من القرن الجاري.
وحقيقة نكبة عام 1948 في فلسطين العروبة والرباط والعزة والكرامة والمجد والإباء والتي يُحيي القوميون والوطنيون العرب ذكراها الثامنة والستين هذه الأيام بكثير من الحزن والألم المتقاطعين مع التفاؤل والأمل، كانت ولم تزل هي النكبة الكبرى وأم النكبات والنكسات والهزائم والكوارث والمحن التي تعرض لها الوطن العربي على مدار تاريخه القديم والحديث.
ولا أعتقد أن ثمة خلاف حول حقيقة أنه لو أحسنت الأمة العربية التعامل مع الظروف الموضوعية والإيجابية والفرص الذهبية التي توفرت لها في أوقات كثيرة سابقة، لقدر لها، بالاعتماد على القانون الدولي والأعراف والعقل والمنطق والانتماءين الوطني والقومي، أن تحول هذه النكبة إلى "مرجل" يحرك فيها مواضع قوتها وإمكاناتها ومداركها، ، لتعد العدة اللازمة والضرورية وتستأنف من جديد معركتها الفاصلة مع العدو المغتصب للأرض والمتمادي في عدوانه، والتي بموجبها وحدها فقط، تستعيد الحق الذي طال انتظاره كثيراً.
مسلسل طويل ومتواصل الحلقات من النكبات والنكسات والهزائم والكوارث والمحن، وكأنه كان مقدراً لهذه الأمة التي كانت خير أمة اخرجت للناس أن تظل رفيقاً ملازماً للنحس ونذير الشؤم، وأن تنتقل من نكبة إلى نكسة فهزيمة فكارثة فمحنة. وإن مزيداً من الاستذكار بحيث نشمل الأحداث الكبيرة التي شهدها العالم على مدار التاريخ، يجعلنا ندرك أن كثيراً من أمم الأرض تعرضت هي الأخرى في أوقات استثنائية ومتباعدة إلى نكبات ونكسات وهزائم وكوارث ومحن مماثلة، أو ربما أشد وطأة وأكثر إيلاماً . لكن المفارقة العجيبة أنه في حين تغلبت تلك الأمم على جميع تأثيرات ونتائج وتداعيات نكباتها ونكساتها وهزائمها وكوارثها ومحنها ، نجحت في استعادة زمام المبادرة من خلال إيقاظ أحاسيسها ومشاعرها الوطنية وأحياناً الدينية ومن خلال شحذ وتنشيط قدراتها وإمكاناتها والنهوض بها مجدداً وأجراء مراجعات شاملة لمكامن ضعفها وقوتها، فإننا شهدنا شيئاً مغايراً ومعاكساً تماماً في الأمة العربية.
لكن من سوء طالع الأمة العربية أنها من حيث درت أو أريد لها أن لا تدري قسراً لا طواعية، غلّبت النزعات القُطرية الخاصة على التوجهات القومية العامة وحصرت نفسها في قوقعة النهج الشمولي وزجت بنفسها مجبرة لا مختارة في آتون الخصومات والنزاعات الحزبية ،فأسقطت نفسها في متاهات ومخاطر الانقسام والتجزئة والتفتت. وهي بذلك قدمت للكيان الصهيوني الفرصة التي لم يكن ليحلم بها في وقت من الأوقات، فجاء عدوانه الإجرامي في الخامس من حزيران عام 1967 والذي تمكن بموجب نتائجه المأساوية من توسيع رقعة احتلاله لتشمل ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية وأراض عربية أخرى من مصر وسوريا والاردن. وبنتيجة ذلك العدوان وقع المحظور من جديد واتسعت رقعة النكبة لتشمل جزءاً من المصريين والسوريين والأردنيين والخليجيين، إلى جانب كل الفلسطينيين. وفي محاولة منه للتقليل من وطأة الهزيمة التي مُنيت بها الأمة نتيجة ذلك العدوان والتأثيرات والنتائج والتداعيات التي كان من الممكن أن تترتب عليها لو أن العرب غلبوا روح الهزيمة على الرغبة في النصر واستسلموا لليأس والقنوط،.
صحيح أن نكبة عام 1948 في فلسطين فرخت نكبات ونكسات وهزائم وكوارث ومحن على امتداد العقود الأخيرة، ربما كان آخرها وأشدها وجعاً ومرارة جريمة اقتتال اخوة الوطن واللغة والمبادئ والسلاح والمصير المشترك التي كان قطاع غزة الفلسطيني ميداناً دموياً لها والتي أدت بأسبابها ونتائجها وأهدافها إلى تباعد كبير وعميق بين القطاع والضفة الغربية بما فيها مدينة القدس المباركة وتباعد أكبر وأعمق بين أبنائهما من الجِلدة الواحدة. لكن الصحيح أيضاً هو أننا نستقبل الذكرى الثامنة والستين للنكبة العربية الكبرى هذا العام ولمعرفتنا الصادقة والواثقة بأن النكبة التي حلت بفلسطين عام 1948 ستظل فعلاً حاضراً في وجداننا ، وستظل العودة حقاً مقدساً بالنسبة لجميع الفلسطينيين إلى أن تحين ساعة الانتصار وإعلان الاستقلال الوطني وتأكيد الانتماء القومي. فلا يحسبن أحد في الكون كله أن حق العودة سيغدو في يوم من الأيام ضميراً غائباً.
ولربما أننا نستشعر كل هذه الآمال العريضة لثقتنا بأمتنا وبأنفسنا، ولقناعتنا بأنه لن يضيع حق وراءه مطالب. فكيف إذا كان هذا المُطالب مُقاوماً مرابطاً في أرض فلسطين المباركة ومتحدياً جبروت وبشاعة الاحتلال لها!!؟
بقلم :غادة طقاطقة