جدلية استخدام القوة والنفوذ في العلاقات الوطنية الفلسطينية

بقلم: حسن السعدوني

السياسيون الفلسطينيون بارعون في تغطية الشمس بغربال ، حتى الشمس الساطعة في منتصف الصيف السيء ، انهم مقتنعون بما يقولون، ويحاولون اقناع الاخرين به أيضاً، فتراهم يحاولو معالجة أصعب مشاكل البلاد باستخدام شعارات تصبح ملزمة وطنياً وقانونياً ودينياً دون أن ينص عليها قانون أو منطق إنساني، وهذا ما يجعل هذه الشعارات عرضة لأن يتم استبدالها بشعارات جديدة في أي وقت حسب الحاجة، وبالتالي تبقى المشاكل دون حلول ، وتتوسع لتنفجر فيما بعد هذا واقع الحال في وطننا الآن .

مشكلة لا يستطيع شعار أن يحجبها

لقد بقيت العلاقات الفلسطينية – الفلسطينية معقدة منذ اتفاق أسلو عام1991، والتي حول الوضع الفلسطيني الى سلطة بعد حصولها على الاعتراف الدولي في العام نفسه، إن جذور المشكلة تكمن في أن الفلسطينيين تم إجبارهم على الانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة السلطة دون السماح لهم بالعودة إلى التفكير من جديد بما وصلوا إلية من قيم معنوية ومادية، فقد أصبحوا مواطنين لهم حقوق سياسية واقتصادية وقانونية واجتماعية، وفقاً لقرارات الأمم المتحدة في حق الشعوب في تقرير مصيرها بالإضافة إلى قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي وخاصة قرار 242، الذي أقر بأن الأراضي التي لم تحتل في عام النكبة جزء من الكيان الفلسطيني، تحت ظل قيادة منظمة التحرير وقد نص القرار على أن الأراضي غير المحتلة هي جزء لا يتجزأ من الدولة المنشودة ، و سكانها هم مواطنون فلسطينيون ، هكذا يفهم القرار الاممي ضمنياً.....

أصبحت المسألة أكثر تعقيداً بعد هزيمة حركة فتح عام 2006م في الانتخابات التشريعية ، فقد فقدت الحركة المزيد من النفوذ ، ومراكز القوة على صعيد العلاقات الوطنية والاقليمية والدولية ، وقد تجلى هذا بوضوح في حزيران 2007م ، عندما قامت حركة حماس بتغيير الخريطة السياسية الفلسطينية بالقوة في قطاع غزة .

تشكلت العلاقات الفلسطينية – الفلسطينية من خلال قرارات واتفاقيات سياسية ، اتخذت من القيادة السياسية برضا الأطراف تاريخياً ، وقد أثرت هذه الاتفاقات في البناء الكلي للنظام السياسي الفلسطيني ، والتي حالت دون إحداث أي تغيير فيها لأنه سيؤدي الى انهيار البناء بالكامل ، وهذا ما حصل في صيف عام 2007م وإلى الآن لأن حماس قامت بهدم المعبد الغزاوي بدعاوي الحسم والتمكين والفرصة والشرعية ، فمنذ انطلاقتها وهي مصرة على المضي قدماً نحو الانفصال عن الحركة الوطنية الفلسطينية بشكل عام والممثلة بمنظمة التحرير، معتقدة بأنها لن تنفصل عن الوطن ، أهكذا تسير الأمور ببساطة ؟ دون التمييز بأن منظمة التحرير هي الوطن والوطن هو منظمة التحرير، لأن البداية النضالية كانت لحركة فتح ، وقد تميزت لعقود طويلة من الزمن بالنضال الايجابي الأمر الذي أدى إلى اندفاع الجماهير الشديد نحوها ، والانضمام اليها حينما وعدت الفلسطينيين بتحرير الوطن الذي خسروه ، وأصبحوا لاجئين يحلمون بالعودة والتخلص من تداعيات النكبة .

تطور هذا التعاطف الى نشاط شعبي ورسمي نحو قضية اعتبرت القضية المحورية للعرب ولأحرار العالم ، أضف الى ذلك، أنها اكتسبت صفة العالمية في إطار ثقافة المقاومة الشعبية الناعمة المتسقة مع لغة العصر ، ولكن ذلك لن يدم طويلا وفي ظل الانقسام الذي يتطور نحو الانفصال، وخاصة في ظل ظهور مصطلح جديد وهمي ( ممر مائي ) على طاولة الكبينت الإسرائيلي ، مقابل وقف سلاح الأنفاق الهجومي على إسرائيل ، هكذا تقول الأخبار التركية القطرية والإسرائيلية ، هذا يعني في حالة القبول تجريد حركة حماس من آخر ما تبقى لها من منظومتها العسكرية الاستراتيجية الحربية في ظل المعطيات الحالية ( اليوم نغزوهم ولا يغزونا) ، مقابل خطة إصلاحات اقتصادية تهدف اسرائيل من ورائها تحويل الانقسام إلى انفصال ، وبالتالي تسوق دولياً عبر سفاراتها وإعلامها أن هناك نظامين منفصلين جغرافيا وشعبياً، وبالتالي فقد حلت الجزء الأكبر من هموم الشعب الفلسطيني ، وخاصة المعاناة الغزاوية التي أرقت الضمير العالمي بعد ثلاثة حروب ظالمة عليه .

التفاوض بين حركتي فتح وحماس على قاعدة تقاسم الخسائر

خشيت حركة حماس من أن تقوم أغلبية السلطة الفتحاوية بحرمانهم من الدعم المالي الدولي ، والسيطرة على القرار الوطني والتمثيلي والوظيفي في الجهاز البيروقراطي للسلطة بعد نجاحهم في الانتخابات ، وكأن الحزب الذي ينجح يجب أن يوظف جميع عناصره في الجهاز البيروقراطي للدولة متجاهلين أن المال القادم للسلطة هو مشروط بالانخراط بالعملية السياسية ، أضيف إلى ذلك أن التوجهات السياسية لحركة حماس كانت وما زالت مختلفة عن مسار المنظمة من خلال ارتباطاتها الاقليمية والدولية ، لهذا هرع الحمساويون إلى توظيف عناصرهم من الجيش الاحتياطي في المواقع الرفيعة والهامة في السلطة ، وقالوا إنهم يشعرون بالخوف على حقوقهم الوطنية والتمثيلية والشرعية ، لذلك على الجميع أن يقر بأن هذه الإجراءات قانونية ودستورية تدخل في إطار التمكين .

من الواضح أن سياسة التمكين لم تفلح في ظل الصدام مع الهيكليات الموجودة منذ أكثر من عشر سنوات ، فقامت الحركة بالحسم العسكري على دعاوي مرفوضة وطنياً وأخلاقياً ، وبالتالي أسس هذا الانقسام الأسود إلى مرحلة سياسية جديدة في غزة ، عندما قال الفتحاويون إنهم غادروا غزة بعد أن تعرضوا لمذبحة استهدفت تواجدهم، بينما قال الحمساويون إنهم حموا تواجدهم من طموحات الأمن الوقائي وقد احتفظ كل طرف بذاكرة مؤلمة لما حدث ، واعتبر نفسه ضحية.

في ظل هذه العلاقة المعقدة ، وتصاعد الخطاب العنصري الرافض للآخر، لم تقم القوى الوطنية الفاعلة بأي عمل يهدف لمعالجة جذور المشكلة في السياق التاريخي الذي أوجدها الانقسام ، وكل ما قامت به القوى هو أنها تبنت شعاراً أطلقه الرئيس أبو مازن وهو: الوحدة خيار استراتيجي ، ولكن الشعار فشل في معالجة المشكلة لأن أطرافاً إقليمية وسوست ودعمت وعملت على تكرس فكرة أن هناك رأسين في النظام السياسي الفلسطيني .

يكرر الرئيس أبو مازن دائمًا شعارات الوحدة بين شطري الوطن في جميع المناسبات الوطنية "الوحدة الوطنية خط أحمر"، كما أطلقت النخبة الفلسطينية شعارها الخاص بها: "جميعنا فلسطينيون من أجل المشروع الوطني وجميعنا فلسطينيون من أجل فلسطين"، في ظل هذه الشعارات كان من المحرمات الحديث عن المشاكل الأساسية في العلاقات البينية أو مخاوف كلا الجانبين، فالحمساويون الذين رفعوا شعار :"فلسطين لجميع المسلمين " و شعار "فلنحافظ على الهوية الاسلامية تم مقاومتهم ، والشعارات التي أطلقها الفتحاويون مثل الحل العادل والشرعية الدولية ، تم قمعهم وأفشالهم أيضاً من الاحتلال .

رغم ذلك بقيت "النار تحت الرماد " فما زالوا يتبادوا الاتهامات حتى الآن فاتهموا الحمساوين "بأنهم قد باعوا غزة للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين ، وجعلوا منها قاعدة ارتكازية لخدمة التنظيم ، متجاهلين أقل المطالب الحياتية لشعبهم ، بينما أتهم الفتحاويون بأنهم " منسقون مع الاحتلال في حين أن الحقيقية هي : أن الطرفين يتنازعان للسيطرة على الأغلبية الشعبية ، وتسيد في البرامج السياسية والتفاوضية التي تعزز من بقاء هذا الشعب العظيم على أرضه ، وبالتالي من يمثل الشعب في المرحلة القادمة ؟ .. ..

زواج كاثوليكي واتهامات بالخيانة

إن الجهود المبذولة لإحياء مفاوضات السلام الاسرائيلية الفلسطينية والتي هدفت الى التوصل الى حل نهائي للقضية الفلسطينية عادة ما تثير التوتر في العلاقات الداخلية الفلسطينية، بينما يتقلص هذا التوتر عندما تدخل المفاوضات في حالة جمود ، قد تؤذي المفاوضات العلاقات الفتحاوية الحمساوية عندما يكون الحل المقترح إنهاء الصراع ، فتثير مثل هذه الحلول مخاوف حركة حماس في غزة من أن تتحول حدود1967 وطناً بديلاً للفلسطينيين عن فلسطين التاريخية ، وهي الفكرة التي اقترحها المجتمع الدولي منذ عام 1967م مروراً بالمشاريع الإسرائيلية ، وصولاً إلى المبادرة الفرنسية ، وما سيطرح على حركة حماس وفتح في مؤتمر جنيف القادم .

خلال 21 سنة من الزواج الكاثوليكي بين الفتح وحماس ، اتهم الطرفان كلاهما بالخيانة ، وبالتالي استقر الطرفان على حالة الخوف من بعضهما طوال الوقت، أضف الى ذلك سيتواصل هذا الخوف في ظل وجود شعارات تحاول أن تواجه الاختلال في العلاقات ، آخر هذه الشعارات هو "دفاعاً عن الانتفاضة والمقاومة الحالية ، فقد ابتدع لمواجهة الخطاب الإقصائي المتنامي الذي رافق تحركات الطرفين بالمنطقة ، في ظل شعار "التوافق" ، تبادل كلا الطرفين الاتهامات والتي أحيانا يهمس بها وأحيانا يصرح بها علانية، لتجزم بعدم قدرتهما على الوصول إلي تفاهم ما لأنهاء خلافاتهم التي أضاعت الوطن .

من هنا يجب التركيز على عدم إضاعة الوقت ، واللعب على متغير الزمن بين طرفي المعادلة ، فلن تكون تغييرات في النظام الإقليمي العربي على المدي المنظور، ولن تظهر جهة عربية أكثر من الفلسطينيين أنفسهم تنادي بالحقوق الفلسطينية ، ولن يظهر طرف اسرائيلي يؤمن بالحقوق الفلسطينية في الوقت الحاضر، لاعتبارات التربية العنصرية الموروثة تاريخياً للمجتمع الإسرائيلي ، ولن يأتي رئيس أمريكي يقبل طفلة فلسطينية ، ويبكي على مطالبها في غزة مثلما فعل الرئيس كلينتون ، ويضرب دولة عربية شقيقة في نفس الليلة ، ولن ، ولن ،ولن ، ولم ، .............. اذن ماذا ينتظر صانع القرار الفلسطيني ؟ وعلى ماذا يراهن ؟ من وجهة نظري هناك تحديات داخلية وخارجية ، وعلينا البدء فوراً بدون إبطاء بترتيب البيت الداخلي الفلسطيني على قاعدة خسارة الأحزاب لصالح الأمصار والشعوب ، والنظر إلى هامش التعاون وتوسيعه وتأجيل أشكال الاختلاف وتضيقه ، من هنا يمكن لنا عمل قاعدة برامج وقواسم مشتركة بين حركتي فتح وحماس ، وبناء شراكة سياسية وطنية للوقوف في وجه الاحتلال الاسرائيلي ووضع آليات محددة لتنفيذها وتطبيقها، وإيجاد إرادة سياسية وطنية حقيقية، وقرار سياسي لمواجهة الأزمة، بعيداً عن الحزبية والفئوية ، وإيجاد بديل وطني يتحرك في جميع المسارات للضغط الشعبي والجماهيري ، من أجل أن تستجيب القوى الوطنية لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه، والتخلص من ( قميص عثمان ) وهي فلسفة جدلية استخدام القوة والنفوذ في علاقاتنا الوطنية الفلسطينية .

بقلم/ د. حسن السعدوني