من الظلم التنكر للتاريخ الوطني وما قدمه الشعب ورموزه الوطنية من تضحيات ، بسبب خلافات سياسية أو محاولة إظهار الذات الحزبية أو إخفاء الفشل . إن من يشكك بالتاريخ الوطني لشعبه يلتقي ، بوعي أو بدون وعي ، مع رواية العدو ويخدمها . نعم من حق الجميع ممارسة النقد ، وهناك أوجه خلل كثيرة يجب نقدها ، ولكن يجب الحذر من أن تؤدي المبالغة في النقد إلى تشويه تاريخنا الوطني والإساءة إلى قوافل الشهداء والجرحى والأسرى الذين سقطوا دفاعا عن الوطن ، فمن يتنكر لتاريخ شعبه سيلفظه التاريخ وسينكره شعبه .
هذه الظاهرة السلبية والخطيرة نجدها عند بعض جماعات الإسلام السياسي المأزومة التي تصطنع تعارضا ما بين المشروع الإسلامي والمشروع الوطني ، والتي تحاول أن تخفي فشلها بتعميم الفشل إلى كل التجربة الوطنية الفلسطينية لتقول لسنا وحدنا الفاشلين ، كما أنها آفة أصابت البعض ممن يُفترض أنهم ينتمون للمشروع الوطني ، أولئك الذين فشلت تنظيراتهم الدغماتية عن استيعاب تعقيدات المرحلة ، وبدلا من أن يعيدوا النظر بأيديولوجيتهم ونهجم السياسي يهربون نحو التشكيك بالتاريخ والمشروع الوطني ، ومطالبين بالبحث عن خيارات أخرى بديلة ! .
نعم كان وما زال يوجد خلل في الأداء الرسمي والحزبي الفلسطيني وفي المسيرة الوطنية منذ عشرينيات القرن العشرين حتى اليوم ، ولكن الفلسطينيين لم يفقدوا فلسطين بسبب هذا الخلل فقط . وأن تفشل النخب السياسية في عملها وخياراتها فهذا لا يعني فشل المشروع الوطني أو عدم شرعية وعدالة قضيتنا الوطنية ، فتاريخ الشعوب ومصيرها لا يرتبط بالأحزاب والأشخاص بل بعدالة القضية وبإرادة الشعب .
نعم أخطاء الفلسطينيين كثيرة ، ولكن ليس في الخيارات الاستراتيجية بل في الأداء وعدم ثبات شبكة التحالفات لاعتبارات خارجة عن إرادتهم ، وصحيح أيضا لم نحرر الوطن ولم نُقِم الدولة المستقلة ، ونعم يوجد انقسام وفقر وبطالة ، ولكن بالمقابل لم تنتصر إسرائيل ما دامت القضية الفلسطينية دون حل وما دام يوجد 12 مليون فلسطيني نصفهم داخل وطنهم ونصفهم في الشتات والكل يطالب بالدولة والعودة ، والرأي العام العالمي وكثير من دول العالم يتفهمون عدالة القضية الفلسطينية ومشروعية حق الفلسطينيين في دولة .
مارسنا النقد وأحيانا بقسوة تجاه السلطة ومنظمة التحرير الخ ، ولكن في المقابل لم نشكك يوما في تاريخنا وعدالة قضيتنا ، ولم نشكك في شرعية المشروع الوطني كمشروع تحرر وطني حتى في ظل أزماته وتناقضاته الداخلية.
انتقدنا ممارسات خاطئة في السلطة الفلسطينية ولكن لم نشكك بمبدأ وجود سلطة وطنية أو بشرعية الرئيس ومنظمة التحرير ، وانتقدنا طريقة عمل الدبلوماسية الفلسطينية ولكننا لم نشكك بجدوى العمل الدبلوماسي وبأهمية الشرعية الدولية .
أيضا مارسنا النقد تجاه حركة حماس والفصائل الأخرى ، ولكن لم نشكك بشرعية الحق بالمقاومة ولا بشرعية فوز حماس في الانتخابات التشريعية الأخيرة ، كما لم نتجاهل ، خلال كل هذا السيل من الانتقاد ، الايجابيات والمنجزات التي تم تحقيقها بعذابات الشعب ومقاومته وصموده ، ولم نفقد يوما ثقتنا بشعبنا وعدالة قضيتنا .
كثيرة هي منجزات الشعب الفلسطيني تحت راية الحركة الوطنية الفلسطينية التي انطلقت منتصف الستينيات ، ليس بمقياس الاقتراب من تحقيق الهدف المنشود بل بمقياس قوة الخصم وما عرفه العالم من تحولات كبرى وما تشهده المنطقة العربية اليوم من فوضى وحروب وبمقياس الصبر والصمود .
ما يؤخذ على القوى السياسية الفلسطينية وعلى الفلسطينيين بشكل عام عدم توحيد جهودهم وعدم المراكمة على ما يتم انجازه حيث يعمل كل فريق أو جماعة جديدة على تسفيه من سبقوهم والتشكيك بانجازاتهم والبدء من نقطة الصفر ، دون الأخذ بعين الاعتبار تغّير الظروف والمعطيات وخصوصية الحالة النضالية لكل زمن . كما يؤخذ على بعض المنتقدين أنهم إن اختلفوا مع مسئول حكومي أو تعرضوا لإساءة لأي سبب كان فإنهم يسقطون جام غضبهم على كل الحالة السياسية .
يكفي فخرا لأصحاب المشروع الوطني أنهم استنهضوا الهوية الوطنية وحافظوا عليها في وقت كان مطلوب شطبها أو تذويبها ضمن هويات أخرى ، ويكفيهم فخرا أن فرضوا اسم فلسطين على العالم منذ عام 1974 ثم رفعوا علمها في الأمم المتحدة عام 2015 ، ويكفيهم فخرا انهم قاتلوا العدو على كل الجبهات وسطروا ملاحم من البطولات في وقت كان القومجيون والإسلامويون يقاتلون ويتقاتلون على السلطة ودفاعا عن أنظمتهم ، أو يقاتلون في جبهات أخرى غير فلسطين ، بل ناصبوا المشروع الوطني التحرري الفلسطيني العداء .
لو نظرنا للسلبيات فقط سنصاب بالإحباط بالتأكيد ، ولكن لو نظرنا لما تم انجازه ، انجاز الثبات والصمود والحفاظ على الهوية ، وانجازات جنود مجهولين عملوا ويعملون بصمت في مجال مقاومة الاحتلال وسياساته وفي مجال بناء مؤسسات الدولة وفي مجال الفنون والثقافة والتعليم الخ ، وحاولنا تجميع هذه الانجازات لكنا أمام مشهد مُشرف وحصيلة يمكن البناء عليها للمستقبل ، لأن صرعنا مع إسرائيل لم ينتهي .
إن كنا نُحمِل إسرائيل وحلفاءها وخذلان أنظمة وجماعات عربية وإسلامية لنا وتلاعبها بمصير شعبنا المسؤولية عن نكباتنا وأوضاعنا المتردية فهذا لا يعني تبرئة النخب السياسية من كل مسؤولية . لذا لا نقدس تاريخنا الوطني ورموزه كما لا نُجمِل الواقع ولا ندافع عن نخب فاشلة وفاسدة ما زال البعض منها في مواقع قيادية ويُعيدون انتاج الفشل في المواقع والمؤسسات التي يديرونها ، بل ندافع عن شعبنا وتاريخه الوطني .
لا شك ، لو كان السلوك الاخلاقي والسياسي للنخب السياسية المتعاقبة أفضل حالا ، ولو لم يتسلق بعض المرتزقة والانتهازيون إلى موقع القرار ، ولو لم يظهر فساد وفاسدون الخ ، لكان انجازنا وحالنا الوطني أفضل مما نحن عليه ، ولكن علينا أن لا نحاسب ونعاقب الشعب وتاريخه بفساد البعض في النخب السياسية ، أو يصبح تاريخنا الوطني ورموزه ورقة يتم توظيفها في المناكفات والخلافات السياسية .
عالم السياسة ليس عالم الملائكة ومن يريد تصَيُّد أخطاء الخصم الوطني ومحاسبته عليه أولا أن ينظر إلى أخطائه ، والشعب الفلسطيني ناضج بما فيه الكفاية بحيث يستطيع الحكم على الأشياء ومقارنة الماضي بالحاضر ، وعلى الذين يتجنون على التاريخ الوطني أن يدركوا أنهم سيصبحون بعد حين من الزمن جزءا من التاريخ الفلسطيني .
بقلم/ أ-د إبراهيم أبراش