الإعلام الفلسطيني وقصص المعاناة من جيل إلى جيل

بقلم: عماد شقور

 

اسرائيل تسابق نفسها في انتاج وتوزيع الاخبار، لأنها لا تجد بين دول العالم من تسابقه في هذا المضمار. فهي، باختصار شديد، مصنع اخبار وهي "فضيحة" متنقلة، لا اقل. ولكل حدث فيها، تقريبا، "طَنّة ورَنّة"… اما لماذا اقول "تقريبا"، فإن السبب هو تقصير الفلسطينيين بشكل خاص، والعرب بشكل عام، في نشر كثير من اخبار اسرائيل الفضائحية، والاستفادة من تعريتها وكشف عنصريتها لزيادة عزلتها على الصعيد الدولي، والعمل على تسريع وتيرة مقاطعتها وفرض العقوبات عليها، كآخر استعمار في العالم، وآخر نظام تمييز عنصري، واكثر المجتمعات في العالم تلطُّخا بوحل الفاشية الظاهرة، إلى درجة بدء كبار ضباط جيشها وقادة اجهزة مخابراتها، ناهيك عن مفكريها والعقلاء من كتابها بدق نواقيس الخطر، والتحذير من الانزلاق إلى الحضيض اخلاقيا وقِيَميّا، والثمن الباهظ الذي سيدفعه الابناء والاحفاد جراء ذلك.
في العشرة ايام الاخيرة مثلا، حفلت صحف اسرائيل والمنطقة والعالم، بكم هائل من الانباء من اسرائيل، بينها، على سبيل المثال لا الحصر:
ـ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يطرح مبادرة لاستئناف المفاوضات الاسرائيلية، واحياء مبادرة السلام العربية.
ـ نتنياهو يرحب، مع الكشف عن محاولات ضم/انضمام "المعسكر الصهيوني" المشكل من حزب العمل برئاسة هيرتسوغ وكديما برئاسة ليفني، إلى حكومة نتنياهو.
ـ هيرتسوغ سيتولى وزارة الخارجية، وتوقعات لحدوث تطورات ايجابية كبيرة على الصعيد الاقليمي، وتسريبات عن دور لطوني بلير وراء مبادرة السيسي وترحيب نتنياهو وهيرتسوغ بها.
ـ نتنياهو يعلن تواصله مع افيغدور ليبرمان، رئيس حزب "يسرائيل بيتينو" اليميني المتطرف بهدف ضمه إلى ائتلافه الحكومي، ويعرض عليه تولي وزارة الدفاع.
ـ هيرتسوغ يعلن انسحابه وانتهاء المفاوضات مع نتنياهو الذي اختار توسيع حكومته بضم ليبرمان وحزبه اليها.
ـ موشي يعالون، وزير الدفاع في حكومة نتنياهو يستقيل من الحكومة والكنيست، ويهاجم نتنياهو، ويرتدي قبّعة "اليميني المتّزن"، ويعلن انه سيعود للمنافسة على موقع القيادة بعد مرحلة ابتعاد مؤقتة عن العمل الحزبي والسياسي.
ـ نتنياهو يعلن استعداده (!!) للاجتماع إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ابو مازن، ويحث فرنسا للمبادرة بترتيب اللقاء.
ـ وفد من الخارجية الاسرائيلية في القاهرة، ومصر تُعد لقمة فلسطينية اسرائيلية برعاية الرئيس السيسي.
كل واحد من حشد هذه العناوين الاخبارية جدير بالمعالجة باكثر من مقال، يشرح خلفيات النبأ واحتمالات تطور الامور بناء على ذلك، وتقديم الرأي حول التصرف الامثل بخصوصه.
الا انني لن اتوقف، في هذا المقال، عند أي من تلك العناوين التي كتب الكثيرون حولها، وذلك بهدف التركيز على خبرين آخرين اوردت الصحف الاسرائيلية اولهما يوم الجمعة الماضي، وثانيهما يوم الثلاثاء.
جاء الخبر الاول في جريدة هآرتس تحت عنوان مضحك يقول: الفلسطينيون "يستفيدون" من مصادرة اراضيهم!. وفي نص الخبر تورد الجريدة الوقائع والحقائق التالية:
ـ اثر حرب حزيران 1967، صادرت اسرائيل نحو ثلاثة آلاف دونم من اراضي قرية عيناتا الواقعة إلى الشرق من مدينة القدس، وبررت المصادرة بانها تتم لاسباب عسكرية وامنية، ثم شرعت ببناء المساكن الاولى لما عرف لاحقا بمستوطنة/ مستعمرة معاليه ادوميم.
ـ اثر اعتراض اهالي عيناتا على ذلك، اقرت المحكمة الاسرائيلية حق اصحاب الاراضي باملاكهم، وعدم جواز اقامة مبان مدنية على اراض صودرت لاسباب عسكرية.
ـ ابقت السلطات قرار المصادرة، واستبدلت السبب، ليصبح الامر لاسباب لها علاقة بـ"المصلحة العامة"، حيث يعني ذلك ان لا يكون المستفيد من المصادرة طرفا على حساب طرف آخر.
ـ هكذا استمر البناء على تلك الاراضي، لتصبح معاليه ادوميم من اكبر المستوطنات/المستعمرات الاسرائيلية المقامة على الاراضي الفلسطينية، واضيف اليها لاحقا اقامة "كفار ادوميم" على مقربة منها وعلى اراضي عيناتا المصادرة.
ـ قبل اشهر اعاد اهالي عيناتا مطالبتهم بالغاء قرار المصادرة، وباعادة تلك الاجزاء من الاراضي التي لم تُقَم عليها مبان على الاقل، ورفعوا هذه المطالب إلى المحكمة الاسرائيلية من جديد.
ـ وفي الاسبوع الماضي فاجأ ممثل السلطات الاسرائيلية، كما اوردت ذلك صحيفة هآرتس، عندما ادعى في المحكمة ان "المصلحة العامة" متوفرة في قرار المصادرة، حيث تستفيد قرية عيناتا من توفير معاليه ادوميم فرص عمل ودخل لمئات من اهالي البلدة!.
بموجب هذا "المنطق" الاسرائيلي، يتوجب على اهالي عيناتا تقديم الشكر لسلطات الاحتلال على مصادرة ممتلكاتهم، وتبادل التهاني، لتكرُّم المستوطنين المستعمرين بالسماح لاحدهم العمل كجنائني مثلا في حديقة بيت اقيم على ارضه.
ومن هذا الخبر إلى الذي يليه:
في عشرينات القرن الماضي بنى الكاهن سليم شعيا، راعي الطائفة الارثوذكسية العربية في يافا، بيتا على تلة في المدينة يسميها ابناء المدينة "جبل العرطنجي"، اقام فيه هو وزوجته واولاده السبعة. في العام 1948 نشبت الحرب في فلسطين عندما كان ثلاثة من ابنائه في زيارة لاقاربهم في لبنان، ولم يتمكنوا من العودة إلى يافا. وفي سنة 1950 سنّت اسرائيل قانون "القيِّم على املاك الغائبين"، الذي شكل اساسا قامت عليه اوامر واجراءات وقوانين كثيرة لاحقة، هدفت جميعها إلى مصادرة ما امكن من املاك الفلسطينيين واراضيهم وعقاراتهم. بموجب ذلك القانون اعتبرت السلطات الاسرائيلية انها هي "القيّمة" على بيت الكاهن سليم شعيا، ولكن عندما تعذر عليها تطبيق ذلك بالكامل، عادت بعد تسعة اعوام، أي في العام 1959 لتبلغ الكاهن انها شريكة له في العقار بنسبة 40٪، هي حصة الابناء الثلاثة الذين علقوا في لبنان ولم يتمكنوا من العودة الي بيتهم في يافا.
بدأ مسلسل جلسات المحاكم. وعندما قدمت عائلة الكاهن شعيا وثائق بيع الابناء الثلاثة في لبنان لحصصهم في العقار إلى اخوتهم قبل مغادرتهم يافا، رفض مندوب السلطات الاسرائيلية الاعتراف بالوثائق، فسافر الابناء الثلاثة من لبنان إلى قبرص، واعادوا توقيع وثائق تنازل عن حصصهم في بيت ابيهم إلى اشقائهم في يافا، ولكن المندوب الاسرائيلي رفض هذه الوثائق ايضا، بحجة انه لا يستطيع دعوتهم للشهادة في المحكمة، كونهم في دولة هي في حالة حرب مع اسرائيل.
توفي الخوري سليم شعيا سنة 1963، وتابع ابناؤه الباقون في يافا، جورج وإفلين وعودة وكلير، الدفاع عن حقهم الطبيعي والبديهي في بيتهم الذي بناه والدهم. وطرح في هذه الاثناء موضوع شراء الابناء الباقين في يافا حصص اخوتهم الثلاثة التي اصبحت بتصرف "القيِّم على املاك الغائبين"، وتقول ماري كوسى، ابنة جورج شعيا الذي توفي عام 1973، ان والدها ظل يكرر إلى يوم وفاته انه لن يشتري البيت الذي هو مُلكه.
اما فدوى، ارملة جورج، والمقيمة في الدور الارضي من البيت، (فيما تقيم احدى شقيقات زوجها في الدور العلوي)، فتقول انها فوجئت ذات يوم سنة 2007 بمن يطرق الباب ويطالبها بـ 213 الف شيكل، وذلك اجرة حصة "القيِّم" من البيت الذي تشغله. وما زال مسلسل المحاكم مستمرا، حيث طالبت السلطات الاسرائيلية في جلسة هذا الاسبوع بمبلغ 431 الف شيكل، أي ما يعادل 110 الاف دولار، اجرة حصة "القيِّم" في العقار، وذلك عن السنوات السبع الاخيرة، لأن ما سبق ذلك سقط بسبب التقادم!.
انها صور من المعاناة الفلسطينية المتواصلة، ينقلها جيل إلى جيل إلى جيل. يجدر بالفلسطينيين نشرها وحفظها: نشرها لتكون وثيقة ادانة للعنصرية الاسرائيلية، وحفظها لتكون درسا للاجيال المقبلة. ويجدر بالفلسطينيين التعامل مع كل موضوع مثل هذا، لا كرقم بارد لا يحرك مشاعر، بل يجعل منها قصصا انسانية تحفظ الاسم والعمر والعنوان والظروف المحيطة، لتثير قلقا انسانيا يدفع الفلسطينيين للمقاومة والرد، ويحث غير الفلسطينيين على التعاطف والتأييد والمناصرة لقضيتنا ومطالبنا الشرعية. فقصة ومعاناة انسان غير مُعرَّف شيئ، وقصة ومعاناة انسان معروف الاسم والصورة والظروف وما امكن من تفاصيل انسانية صغيرة وحميمة عنه، شيئ آخر تماما. و"لكل ضحية اسم".

عماد شقور

٭ كاتب فلسطيني