أمين عام الأمم المتحدة في شهوره الأخيرة… ليس أمينا على ثوابت القضية الفلسطينية

بقلم: عبد الحميد صيام

■ لم أكن أتخيل أن يصل الأمر بالأمم المتحدة وأمينها العام غير الأمين على قراراتها وميثاقها ومبادئها، وأن يسمح للبعثة الإسرائيلية لدى الأمم المتحدة بعرض منشوراتها وأباطيلها وتزويرها للتاريخ والجغرافيا داخل الأمانة العامة.
لقد بلغ السيل الزبى في الاعتداء على قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن، تحت سمع وبصر مندوبي 22 دولة عربية و57 دولة إسلامية، بدون تحرك جاد أو احتجاج بصوت عال، أو.. أو. والحديث حول تبني الخطاب الإسرائيلي والسماح لها بترويج أباطيلها داخل الأمانة العامة طويل وموجع، وسأكتفي بأكثر الحالات رعونة وعنجهية.
منذ هبة الأقصى والأمين العام وممثله في الأراضي المحتلة، نيكولاي ملادينوف، يصنفون ما يقوم به الفلسطينيون إرهابا، ولا يصدرون البيانات إلا عندما يتعلق الأمر بقتلى من الجانب الإسرائيلي، إلا إذا كانت جريمة نكراء بمستوى حرق عائلة الدوابشة، وإلا فالضحايا من الفلسطينيين عبارة عن أرقام تقدم لمجلس الأمن مرة في الشهر. فمنذ تسلم ملادينوف حقيبة الممثل الخاص تغير الخطاب تماما وأصبح التقرير الدوري ينحاز في جوهره بشكل فج للجانب الإسرائيلي، رغم تغليفه ببعض العبارات الروتينية، مثل التعبير عن القلق بسبب هدم البيوت وبناء وحدات استيطانية جديدة.
ولكن ليس هذا بيت القصيد، بل أريد أن أطلع القراء على ثلاثة تطورات تجاوز فيها الأمين العام كل الحدود. ولكن دعني في البداية أشرح موضوع الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف، التي أقرتها الأمم المتحدة عبر العديد من القرارات التي اعتمدها مجلس الأمن والجمعية العامة، وأقرتها محكمة العدل الدولية، وأي انتهاك لها يعتبر انتهاكا للقانون الدولي:
- حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على ترابه الوطني– مثبت في العديد من القرارات، خاصة القرار 3236 (1974) والرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الصادر بتاريخ 9 يوليو 2004؛
- حق العودة إلى أراضيه وبيوته الأصلية ومن يختار عدم العودة يتم التعويض عليه – القرار 194 (1984) الذي أعيد التأكيد عليه أكثر من 40 مرة؛
- القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة أراض محتلة، حسب منطوق العديد من القرارات، خاصة 242 و 338 وكافة القرارت المتعلقة بحل الدولتين مثل القرار 1515 (2003)؛
- كافة الإجراءات الإسرائيلية في القدس الشرقية وإعلان ضمها عام 1980 يعتبر لاغيا ولا قيمة قانونية له، حسب منطوق قرارين لمجلس الأمن 476 و 478 (1980). وقد اعتمد المجلس قبل ذلك العديد من القرارات المتعلقة بالمدينة ورفض تغيير معالمها التاريخية والثقافية والدينية؛
- كافة النشاطات الاستيطانية غير شرعية – القرار 446 (1979) وغيره؛
- حق الشعوب الرازحة تحت الاحتلال بمقاومة الاحتلال بالطريقة التي تناسبها، لانتزاع الحق في تقرير المصير والاستقلال الوطني، كما نص على ذلك القرار 3236 (1974) حرفيا في فقرته العاملة رقم 5.
إن أي نشاط أو تصريح أو بيان أو إجراء يتعارض مع تلك المبادئ الثابتة والحقوق تصبح انتهاكا للقانون الدولي وقرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن. ومن هنا نريد أن نراجع ثلاثة تطورات:

التقارير المنحازة للرواية الإسرائيلية

سأضع القراء أمام صورة ما جرى في الشهور الخمسة الأخيرة، لأحذر من أن الخراب الذي سيلحقه الامين العام في الشهور السبعة المتبقية من ولايته قد يكون أكبر، إذا لم تتحرك المجموعة العربية والمجموعة الإسلامية وكتلة عدم الانحياز وأصدقاء الشعب الفلسطيني، لتنبيهه أن ليس من حقه أن يسمح أو يتغاضى عن أي انتهاك لتلك الحقوق وتلك الثوابت التي ثبتها القانون الدولي عبر العديد من القرارات الدولية، بالإضافة إلى "اتفاقية جنيف الرابعة" التي تنطبق على وضع الفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال، كما جاء في الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية.
بدأت القصة عندما تجرأ الأمين العام وذكر أمام مجلس الأمن بتاريخ 26 يناير، أن "الحل الأمني لا يستطيع أن يخاطب الشعور العميق بالاغتراب واليأس اللذين يحركان بعض الفلسطينيين، خاصة جيل الشباب. إن الإحباط لدى الفلسطينيين يزداد تحت وطأة نصف قرن من الاحتلال، وشلل عملية السلام. لقد علمتنا دروس التاريخ أن الشعوب تقاوم الاحتلال".
قام بعدها السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة، داني دانون، وأنصار إسرائيل وصحافتها بمهاجمة الأمين العام واتهامه بأنه يبرر الإرهاب، بل ويشجعه بدل أن يحاربه وذكره بأن الأمم المتحدة يجب أن تحارب الإرهاب، رغم أن الأمين العام صنف هجمات اليأس التي يقوم بها الفلسطينيون إرهابا، ولم يتحدث عن العنف الإسرائيلي والإفراط في استخدام القوة والقتل خارج إطار القانون، والتحريض الذي يمارسه المستوطنون ومنظماتهم الإرهابية.
حاول الأمين العام أن يدافع عن نفسه، فنشر مقالا في جريدة "نيويورك تايمز" بتاريخ 1 فبراير تحت عنوان "يا إسرائيل لا تطلقي النار على الرسول" يوضح موقفه حيث يقول: "إن البعض فضل أن يطلق النار على الرسول بدل أن يقرأ الرسالة، حيث تم تحريف كلماتي وكأنها تبرير للعنف. إن الطعن والدهس والهجمات الأخرى التي تستهدف المدنيين الإسرائيليين تستحق الإدانة وكذلك التحريض وتمجيد القتلة. لا شيء يبرر الإرهاب وإنني أدينه كليا". وهو بهذه الكلمات تبنى الرواية الإسرائيلية تماما من أن مقاومة الاحتلال داخل الأراضي المحتلة، بما فيها القدس الشرقية وبالوسائل البسيطة والمتاحة عبارة عن إرهاب وهو ما لم يقل به أي أمين عام سابق. بل تمادى أكثر في تقاريره المنحازة للرواية الإسرائيلية، خاصة ما قاله في تقريره أمام مجلس الأمن يوم 19 أبريل: "شهدت الأراضي الفلسطينية المحتلة لفترة تربو على ستة أشهر تصاعدا في العنف نتيجة الهجمات الإرهابية الفردية من جانب الفلسطينيين، نتج عن ذلك مقتل 30 إسرائيلياً و 200 فلسطيني. وقتل أغلبية الفلسطينيين وهم يحملون سكاكين أو أسلحة أو قاموا بعمليات دهس."لقد أعطى السيد بان في هذا التقرير صك غفران لإسرائيل وتبريرا لما تقوم به من إرهاب دولة ضد شعب محتل، وتجاهل عن عمد إفراط إسرائيل في استخدام القوة والقتل خارج نقاط القانون والعنف، الذي يمارسه المستوطنون، وهي نقاط تحدث عنها حتى المندوب الأمريكي في المجلس.
لكن الأمور لم تقف عند هذا الحد، وبقي الأمين العام يتحين الفرص لتقديم رسائل مبطنة لإسرائيل للصفح عنه. من جهتها إسرائيل تمادت كثيرا مستغلة هذا الجو وأقدمت على خطوتين جريئتين داخل مبنى الأمانة العامة: إقامة معرض وعقد مؤتمر.. وهذه حكايتهما.

معرض ملصقات "إسرائيل تهمنا"

تقدمت إسرائيل في الخامس من أبريل بطلب لإقامة معرض فني بمناسبة ما يسمونه "عيد الاستقلال". وكالعادة تقوم الأمانة العامة من خلال قسم الشؤون السياسة بمراجعة الصور واللوحات والملصقات. وقد رفضت حينذاك ثلاثة ملصقات يتعلق واحد منها بالقدس وتظهر فيها قبة الصخرة وتنص كتابة على أن القدس العاصمة الروحية والفعلية لإسرائيل، وملصق آخر حول الصهيونية، باعتبارها حركة عودة شعب أصلي إلى أرض آبائه وأجداده بعد 2000 سنة. والثالث يتعلق بمن سمتهم "الإسرائيليين العرب" داخل إسرائيل وحقوقهم المتساوية مع غيرهم أمام القانون كمواطنين من الدرجة الأولى.
وقد أرسل المندوب الإسرائيلي رسالة شديدة اللهجة يقرع فيها الأمين العام بسبب هذا القرار جاء فيها: "من خلال إعلان عدم أهلية بعض عناصر المعرض حول الصهيونية تقوض الأمم المتحدة وجود دولة إسرائيل كوطن للشعب اليهودي. ولن نسمح للأمم المتحدة فرض رقابة على حقيقة أن القدس هي عاصمة إسرائيل الأبدية". تغير موعد العرض، حتى ظننا أن فكرة المعرض ألغيت لنفاجأ يوم الثلاثاء 17 مايو بأن اللوحات معلقة على الجدران الداخلية لمبنى الأمانة العامة، وأن المعرض سيفتتح يوم الخميس 19 مايو. إذن كان هناك إلغاء للقرار الأول، وأن هناك من تراجع وسمح بعرض هذه اللوحات، التي تخالف قرارات الأمم المتحدة نفسها. طلبنا تفسيرا واضحا لعملية تغيير الموقف، لكن رد المتحدث الرسمي للأمين العام كان غامضا، حيث قال إن الامم المتحدة بعد استعراض المادة لا تتدخل في محتواها؟ وهذا أمر غير صحيح على الإطلاق، بل إن العرف المتبع دائما هو أن ما يعرض يجب أن يمر في عملية تدقيق في المحتوى وإجازته وإلا يتم سحب المادة. وكم من الأفلام والصور والملصقات والوثائق المتعلقة بفلسطين، رفض عرضها تحت حجة عدم التوازن أو مخالفة موقف الأمم المتحدة. جوهر الحادثة أن الأمين العام سمح بعرض ملصق يشرعن ضم القدس الشرقية لإسرائيل.

المؤتمر الإسرائيلي داخل الجمعية العامة

بعد نجاح إسرائيل في تمرير المعرض تمادت أكثر وطلبت استخدام قاعة الجمعية العامة يوم 31 مايو لعقد مؤتمر ضد البرنامج المعروف الذي أطلقه الفلسطينيون والقائم على مقاطعة إسرائيل، وسحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها (بي دي إس) أسوة بما حدث في جنوب أفريقيا ضد نظام الأبرثايد، الذي بدأ ينتشر في العالم أجمع بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية. يعقد المؤتمر تحت شعار "بناء الجسور لا المقاطعة". وتشارك البعثة الإسرائيلية الدائمة لدى الأمم المتحدة مجموعة من المنظمات اليهودية والداعمة لإسرائيل بالإضافة إلى نحو 1500 من طلاب وفنانين وصناع رأي لتدريبهم على كيفية التصدي لبرنامج المقاطة (بي دي إس)". وقال السفير دانون "هذا المؤتمر ستنتج عنه آليات عملية للتصدي لبرنامج المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات، عن طريق تدريب الطلاب ليكونوا سفراء ضد ذلك البرنامج. سيعودون إلى جامعاتهم مؤهلين للتصدي لأكاذيب حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات". جوهر الحادث أن قاعة الجمعية العامة تستخدم لأول مرة لتدريب أنصار إسرائيل على التصدي لحركة سلمية نسخت بالضبط عن تجربة مقاطعة نظام الأبرثايد في جنوب أفريقيا.
هذا غيض من فيض الأمين العام الحالي الذي تبنى الخطاب الإسرائيلي في تعريف الإرهاب وحوّل مقر المنظمة الدولية منبرا للأنشطة الإسرائيلية المخالفة لقرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن. ولعل هذا السؤال الذي وجهته للمتحدث الرسمي يلخص الوضع الحالي: "لو أرادت جنوب أفريقيا أيام الفصل العنصري أن تقيم نشاطا داخل الجمعية العامة للتحريض ضد مقاطة ذلك النظام، وسحب الاستثمارات منه وفرض عقوبات عليه، فهل كان سيسمح لنظام جنوب أفريقيا بإقامة هذا النشاط؟ الجواب: لا جواب.

 د. عبد الحميد صيام

٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز