الناظر إلى المسألة الفلسطينية من داخلها أو من خارجها سيلحظ من دون كبير عناء هذا الوهن المتمدد في كل خلاياها، من رأسها إلى أخمص قدميها. ولا أسمي ذلك أزمة ولا مأزقاً لأنه وضع في سيولة استراتيجية - إذا صحّ التعبير. سيولة بسبب ديناميكا داخلية وتبدّل الأجيال وسقوط خيارات وانفتاح أخرى وبسبب من تحول العقائد وسقوط بعضها سقوطاً مدوّياً. أو بسبب من سيولة أعمّ وأشمل في الإقليم ككل، لا سيما بروز العنف غير المحدود الذي تأتي به الدول والأنظمة أو الإسلام العدمي أو المعارضات.
ما يحصل في الإقليم يظلّل على المسألة الفلسطينية ولا يؤججها. بل إن أي مقارنة في نسبة العنف ومداه بين ما يحصل في مساحة القضية الفلسطينية وما يحصل في الإقليم سيتضح منها أن العنف في فلسطين التاريخية نُزهة عائلية في أحضان الطبيعة! بمعنى أن الأحداث الكبيرة في المنطقة أجّلت "الحدث الفلسطيني الصغير" وشطبته من جدول الأعمال. هذا في المستوى المرئي، أما في المستوى الحيز - سياسي الكبير، فمن الخطأ اعتبار التحولات شؤوناً داخلية لبلد كهذا أو ذاك، بل إن ما يحدث هو تفكك شبه تام للمنظومة والبنى التي أنتجتها اتفاقية سايكس - بيكو قبل مئة عام وقيام أخرى محلّها. وهي لا تقوم من تلقاء ذاتها بل نتيجة إِعمال الدول العظمى إقليمياً وعالمياً لقدراتها وطاقاتها على مختلف الجبهات لترتيب خريطة مصالحها من جديد. وهذا تحديداً يرسم للمسألة الفلسطينية والفلسطينيين دوراً مغايراً عما كان لجهة التأجيل والتحجيم. وفي الوقت نفسه، فإن المنظومة الجديدة التي تنشأ الآن أمام أعيننا تخصص لإسرائيل دوراً جديداً مغايراً عما كان لجهة الالتقاء لا الصِدام، في رأينا.
وفي هذا الإطار تأتي الحملة الإسرائيلية على حق الفلسطينيين في تقرير المصير بصيغة السعي إلى إدارة شؤونهم كسكان تحت السيادة الإسرائيلية. وهي صيغة تفترض أن الفلسطينيين أضعف في كل المعايير وأن الفُرصة مواتية إسرائيلياً للاستفراد بهم وإخضاعهم. وتفترض الأدبيات الإسرائيلية ذات العلاقة أن الاقتصاد الفلسطيني نتيجة الوضع القائم واتفاقات باريس المتأتية من اتفاقات أوسلو، يتبع في شكل شبه تام للاقتصاد الإسرائيلي وأن الازدهار الملموس الذي أصاب مراكز مدينية فلسطينية (الخليل ونابلس وجنين ورام الله والقدس - نتيجة عودة رأسمال فلسطيني بالأساس وتعاقدات استراتيجية مع الاقتصاد الإسرائيلي) أضعف خيارات المقاومة التقليدية ولم يُنتج خيارات أخرى بديلة. من هنا، يُمكننا أن نفهم تردد القيادة الفلسطينية في اعتماد خيار التدويل أو التقاضي في هيئات الأمم المتحدة والاكتفاء بالتلويح به.
إن إصرار النُّخب الإسرائيلية على الاحتفاظ بالسيادة كاملة في فلسطين الضفة الغربية يعني توحيد الكتلة الفلسطينية على جانبي ما كان اسمه الخط الأخضر. وهذا، ما تُدركه هذه النُّخب حق الإدراك وتستعدّ له في أشكال مختلفة أبرزها تأليب الرأي العام اليهودي ضد الجماعة الفلسطينية في إسرائيل وإسقاط شرعيتها السياسية بعد إسقاط مواطنتها الجوهرية من قبل عبر حملات إعلامية متواترة شبه أسبوعية وتعديلات وتشريعات قانونية. في مستوى آخر يتمّ تشجيع قوى فلسطينية في الجانبين على تأجيل "القومي" لمصلحة "اليومي" وقبول اللعبة الإسرائيلية والانخراط فيها لأن البديل كما يقول مسؤولون إسرائيليون سيكون تلك المشاهد التي نشأت في الجوار العربي. وهم يقولونها في شكل ملطّف على صيغة - "نحن المشروع الوحيد الذي بقي وازدهر وما لكم سوى قبول هذا المشروع وتزكيته"! طبعاً - إن الحاصل في الإقليم العربي يصمم وعي الجماعات بما فيها الفلسطينية واليهودية، أيضاً. كما أن التمثيلات الوافدة من الجوار تعني أن لا شيء يُرجى (فلسطينياً) من العمق العربي وأنه سيكون انتظار الفرج العربي مُصيبة كُبرى في ضوء الانهيارات المتتالية.
في وضع كهذا، سيتعاظم دور الفلسطينيين في إسرائيل على حساب الفلسطينيين في الجبل، خصوصاً إذا تعمّق خيار النضال المدني اللا - عنفي الذي يتمتعون فيه بامتياز على أشقائهم في الجبل. كما أن حقيقة وجودهم في تداخل تام مع المجتمع اليهودي وثقافته ولغته يجعلهم مرشحين أكثر من غيرهم لتولي دور قيادي أكبر فلسطينياً. وهذا سيصير محصلة حاصل إذا تقدمت النُّخب الإسرائيلية نحو تكريس الوضع القائم وتطويره إلى أبرتايد مُعلن ينطوي على عزل مكاني للفلسطينيين أو تقييد حرياتهم السياسية وحقوقهم أو ترحيلهم من مواقع سكناهم تحت ستار الأحداث الكبيرة في المنطقة. من هنا، تحدثنا عن سيولة استراتيجية في المسألة الفلسطينية.
مرزوق الحلبي