ليس سهلا أن تكون فلسطينيا بكل ألوان العلم وان تنتمي للحجارة والوديان والجبال... لفلسطين التي تتغلغل فيك حتى النخاع... للإنسان الذي ينتميك بلا لون وبلا اسم, أن تكون فلسطينيا خالصا فأنت ستجد من يغلق الأبواب دونك لأننا لا نرى إلا الألوان المنفردة والفاقعة ولا نقبل اختلاط الألوان وتعددها.
أن تكون أنسانا فالأمر لا يتوقف على قرارك وسلوكك بل على رأي الآخر الذي يريدك نسخة كربونية عنه وإلا فأنت غير موجود هكذا وبكل بساطة فإما أن تتمثلني بالمطلق وإما أن أغيبك من عالمي بالمطلق ولقد عشت دوما مقتنعا بالآخر منذ فتحت عيناي على الدنيا متصالحا مع نفسي ومع الآخرين.
طوال الوقت لم اقتنع بحكاية أن العلم الفلسطيني أو العلم العربي جاء من بيت شعر عربي يتيم وكل ما أراه في ألوان العلم انه محاولة للقول أن لا وجود للون منفرد ويستحيل عليه أن يكون وإلا فقدت الأرض طعمها وفقدت الحياة قيمتها واستحال التطور والسير إلى الأمام.
قبل أيام أقدمت قوات الاحتلال على اعتقال القائد وصفي قبها وهو معروف كأحد قادة حركة المقاومة الإسلامية – حماس - وحملوه قسرا كما اعتادوا أن يفعلوا به منذ سنين ولا زالوا, ولقد قلقت عليه وأنا أقرا الخبر فهو لم يعد يدري أي الليالي سيقضيها بين أهله وكلما مرت عليه فترة قصيرة خارج السجن عادوا إليه من جديد ليعيدوه إلى هناك, كأنما يخشون وجوده خارج قيودهم ومراقبتهم, ووصفي المهندس والوزير السابق والناشط بكل معايير النشاط الإنساني بمكافحة سلوك المحتل كل ما يفعله انه يصر على رافع راية الوقوف في وجه جرائم المحتلين هناك خلف بواباتهم المظلمة والظالمة, وصفي لم يعد ذاك الشاب الصغير وقد أتعبته سنوات الاعتقال الطويلة ولذا أحسست بالخوف عليه ورحت أرافقه بوعيي إلى هناك, أين سيصلي صلاة الفجر وأين سيكون عند صلاة الجمعة وكيف سيتوضأ هناك وبأي حال سيبدأ رمضان هذا العام بعيدا عن مائدة العائلة, كل ما تطاله أيديهم نجس والصلاة على النجاسة لا تجوز, كل وجودهم حرام, كل حضورهم كفر وظلم ومائهم منهوب من دمنا ولا يجوز الوضوء سوى بالماء الحلال, وفي ارض الظلم لا يقام العدل يا صديقي وصلاتك عدل وهناك يا صديقي الذي تنام على فراش السجن أكثر بكثير مما تفعل بين أفراد أسرتك وعلى فراشك حتى كدنا لا ندري متى تكون في المعتقل ومتى تعود إلا حين نحس الفراغ في أنشطتك لنصرة الأسرى, حين تغيب صورتك وأنت تنتقل من موقع لموقع متضامنا صامدا لا تلين وأنت تربت على كتف ابن الأسير والشهيد والجريح وتحتضن أسرهم وتدافع عنهم ليس فقط حين كنت وزيرا للأسرى بل ظللت كذلك بلا كلل أو ملل وبك يحق القول أن القضية أنت سلوكا وانتماء ووجع.
قبل أهل الأسير كنت تنتظر الأسرى المفرج عنهم عند حواجز الاحتلال معرضا نفسك للاعتقال كل يوم وبعد أهل الأسير تغادر ابنهم لتغفو بعد أن يغفو هو هانئا ببيته وكل أسير جديد حكاية جديدة لك ولنهارك الذي يبدأ باسمهم وينتهي باسمهم فسلام عليك تصلي بقلبك رغما عن أنوفهم وسلام عليك تعاود الشموخ فوق جدران معتقلاتهم وسلام عليك تصوغ النهار غدنا من أنين ليلك ومجاري دمك, سلام عليك تفرح كالأطفال وتصمد كالرجال وتخشع طيبا بقلبك وقولك وفعلك, سلام عليك مؤمنا متسامحا لا تلين لك قناة مع الأعداء وتذوب خجلا أمام طفل من شعبك سلام عليك لا تغفو قبل أن تطمئن على من يحتاجون رعايتك من اهلك وناسك ورفاق دربك, سلام عليك وأنت تتمثل الخلق الرفيع دوما ولتعد سالما لنا يا صديقي فهضاب يعبد وتلال رام الله وجبال الخليل وقمم نابلس وسهول جنين وشواطيء غزة تحتاجك تماما كما تفعل خيوط النور النائمة في حيفا والانتظار الذي طال لبيوت يافا نحتاجك كما تحتاجك قباب القدس وجرسياتها وبيوتها فانا من أولئك المقتنعين بالمطلق أن الأسوار من صنع الطغاة فلم يبنى سور على وجه الأرض إلا لحماية الطغيان هذا ما كان مع سور الصين العظيم وهذا ما هو قائم مع جدار الفاشية والعنصرية والاحتلال على ارض بلادنا.
كلما قرأت خبرا لاعتقالك وهي كثيرة تذكرت فورا نكتة التفاح وتذكرتك تخجل من الضحك وتخشى المعصية, أيها المؤمن حد الفعل, أيها الناسك حد الإبداع لا حد الغياب, أيها المصلي حد حراثة الأرض لا حد تقبيلها فقط, أيها الصائم حد التماثل مع الفقراء والمتعبين لا حد الجوع فقط, لا تقلق وأنت تغيب على أبواب رمضان فلقد صليت نيابة عنك صلاة الجمعة هذه فزنزانتك تتسع لقلبك المؤمن الذي لا يغيب عن الصلاة, وأنا أحسست بواجبي وأنا انقل لك نكتتي التي تخيفك من المعصية فذهبت اطلب المغفرة لك مستسمحا الله سبحانه لك بان تضحك, فاضحك يا صديقي واسمح لي أن أكون مفتيا لمرة واحدة وأقول لك إن الضحك فرح وان الفرح من نعم الله علينا, فاضحك يا صديقي واقبل فتواي.
أتذكر حين جئتك يوما طالبا فتوى منك بأمر يخصني فقلت لي الأمر لا يحتاج فتاوي يا أبا علي ولا لكل هذا التفكير والفتوى سهلة عليك فقط أن " تستفتي قلبك " وقد فعلت حينها وقلت لك قراري فأعجبت به وها أنا استفتي قلبي مرة أخرى وأقول لك اضحك بوجه الأعداء ليموتوا غيظا وافرح خلف جدران زنازينهم لتهدمها بعينيك الباسمتين ليرحلوا عنا فكلما رأوا القدرة على الفرح في عيوننا وسلوكنا ورأوا القدرة على الصمود الأسطوري لأمثالك سيجدوا أنفسهم مجبرين على مغادرة دربنا والخروج من ترابنا.
أترى يا صديقي أن بإمكاننا أن نكون معا وان بإمكاننا أن نملأ فراغ بعض وأن بإمكاننا أن نصوغ غدنا معا, كل محاولات إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة بين شقي الوطن المنهوبين وكل الرصانة المفتعلة التي يحاولها البعض فينا متنقلين بين عاصمة وأخرى, مسافرين من دولة لأخرى, حاملين اقتراحات وآراء وأفكار واتفاقيات موقعة واتفاقيات غير موقعة ومسودات قديمة ومسودات حديثة ومع ذلك لا شيء يخرج من كل سفرهم سوى مزيدا من الابتعاد, ألا ترى معي أن بإمكاننا معا وعلى أية زاوية من زوايا الوطن, تحت أي شجرة زيتون, في أي وقفة اعتصام أو احتجاج أو تضامن مع أسير, على مقاعد أي بيت عزاء لشهيد, على بوابة أي معتقل, على حدود أي حاجز, في بيت أي جريح, تحت سماء فلسطين وعلى ثرى ترابها يمكننا معا وقبل أن ننهي فنجان قهوتنا المر أن نتفق ونصوغ معا أسس استعادة الوحدة وبقائها وصمودها واستمرارها وبشهادة أرواح شهدائنا وانين أطفال أسرانا ودم جرحانا وشقاء فقراءنا.
تعال إذن يا صديقي لنفتتح الحوارات هناك على ركام البيوت التي هدمها الاحتلال بطائراته في غزة, تعال إذن نفتتحها على بقايا أيا من الأنفاق المقاتلة هناك, تعال إذن لندعو كل أطفال تلك البيوت ونسائها وشيوخها ليكونوا شهودا على حواراتهم وليكونوا ضامنين للصدق عند التوقيع على بنود أي اتفاق وأنا واثق أن أحدا من المتحاورين لن يكون لديه الجرأة على عدم الاتفاق أمام أعينهم وسيوقع الجميع خشية غضبهم لأنهم الأصدق والأكثر إيمانا بوحدة شعبنا وبلادنا, بانتظارك يا صديقي لنصلي معا صلاة وحدتنا على ترابنا الطاهر الواحد الموحد والمحرر من الأعداء والانقسام والبغضاء, بانتظارك يا صديقي لنعبر معا بوابات الفرح والحرية.
بقلم
عدنان الصباح