عندما كانت توجه الاتهامات إلى الحكومة الإسرائيلية، وإلى قياداتها السياسية والعسكرية بالعنصرية والفاشية والنازية وسياسة الفصل العنصري والابرتهايد، كانوا يردون على متهميهم ليس فقط بالنفي بل بحملات جارحة ضد كل من يوجه الاتهام للسياسة والسياسيين الإسرائيليين، لكن الزمن يدور حتى أصبح الإسرائيليون - من المسؤولين الحاليين والسابقين، ومن شخصيات النخبة وقيادات في الجيش الإسرائيلي- يوجهون هذه الاتهامات إلى حكومتهم وقياداتهم بعد أن كانوا يصفون جيشهم بالأنقى والأكثر أخلاقية بين جيوش العالم، حتى أن منظمة "بتسيلم" الإسرائيلية لحقوق الإنسان، أعلنت عن وقفها التعامل مع النيابة العسكرية الإسرائيلية، وإحالة الشكاوى إلى جهاز تطبيق القانون، حتى لا تصبح ورقة التوت التي تغطي عورة وممارسات الاحتلال، لأن جهاز تطبيق القانون ضد الجنود الذين يلحقون الأذى بالفلسطينيين، لا يقوم بواجبه.
إن الهزة التي أصابت إسرائيل- والتي سبقت استقالة وزير الجيش "موشيه يعلون"، وتعيين "أفيغدور ليبرمان" خلفاً له- تتمثل بالحملة شبه الرسمية على نائب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجنرال "يئير غولان"، والمطالبة بإقالته من منصبه، لاتهامه بأنه تجاوز الخطوط الحمراء، وسبب الضرر لإسرائيل في صفوف الجيش والإسرائيليين وفي العالم، فماذا قال "غولان": لقد شبه ممارسات تبعث على القشعريرة وقعت في أوروبا بشكل عام، وفي ألمانيا النازية بشكل خاص، قبل 70-80 سنة، وما يحصل في إسرائيل اليوم في عام 2016، وشبه ما يحدث في إسرائيل بالمحارق ضد اليهود، وبوادر عنصرية وتطرف كما حدث في سنوات العشرينات والثلاثينات، كما أشار "غولان" إلى الجندي الذي قتل فلسطينياً، بعد أن سقط جريحا على الأرض في الخليل، غير أنهم في إسرائيل لا يريدون الاعتراف ورؤية السياسة العنصرية ضد الفلسطينيين، وبشكل خاص رئيس الوزراء "بنيامين نتنياهو"، فهم لا يريدون سماع الحقيقة، بل أنهم كالنعامة يدفنون رؤوسهم في الرمال لإنكار الحقيقة.
لكن هناك من وقف إلى جانب نائب رئيس الأركان ودافع عنه، فكان أولهم وزير الجيش "موشيه يعلون"، الذي دفع الثمن بالتخلي عن منصبه، حين وجه الدعوة التالية للجيش:"أطالبكم أنتم ومرؤوسيكم أن تواصلوا قول ما في قلوبكم، أفعلوا هذا حتى لو لم تكن أقوالكم تتفق مع التيار المركزي، وحتى لو كانت تختلف مع آراء ومواقف القيادة السياسية العليا، لا تخافوا، لا تترددوا، واصلوا كونكم شجعاناً، هذا هو طلبي منكم، وينبغي أن يكون هذا طلبكم ممن هم مرؤوسون لكم، واصلوا العمل حسب الضمير الإنساني والبوصلة، ولا تسيروا عكس اتجاه الريح"، فأقوال "يعلون" هذه كانت للدفاع عن نائب رئيس الأركان، الذي تحدث عن العنصرية، وتندرج أيضاً ضمن الصراع القائم بينه وبين "نتنياهو"، مع العلم أن "يعلون" لا يقل يمينية عن "نتنياهو"، فقد ظهر مصطلح جديد في إسرائيل بوصفهم لـ "يعلون" باليمين العقلاني.
إن أساس الخلاف بين "نتنياهو" و "يعلون"، يعود لنفسية وشخصية "نتنياهو" باحتكار زعامة الحزب، وعدم السماح لأي من عناصر حزبه التمتع بقوة داخل الحزب، وعدم منحه الشعبية التي تؤدي إلى منافسته وهزيمته، فعدد ليس بقليل من قيادات الحزب، تركوا مناصبهم، أو عمل "نتنياهو" على تطفيشهم وإبعادهم عن مراكز القوة لهذه الأسباب، ومن المتوقع أن يتجمع كل الذين أبعدهم "نتنياهو" حول "يعلون"، لإقامة حزب جديد أخذت وسائل الإعلام الإسرائيلية، بتسميته بالليكود "ب"، حتى وقبل الإعلان عن إنشاء هذا الحزب الجديد، فإن استطلاعاً للرأي العام الإسرائيلي نشر بتاريخ "27-5-2016"، أعطى للحزب الجديد برئاسة "يعلون" (25) مقعداً في الكنيست، فيما تراجع حزب الليكود بزعامة "نتنياهو" إلى (21) مقعداً، فـ "يعلون" الذي أعلن أن قوى متطرفة وخطيرة استولت على إسرائيل، وعلى حزب الليكود أدت إلى زعزعة الاستقرار، وتهدد المس بالمواطنين، "يديعوت احرونوت 22-5-2016"، فالاجتماع الأخير بين "نتنياهو" و"يعلون"، للبحث في أقوال الأخير في دعوته الجيش لقول ما في قلوبهم، أشعلت الضوء الأحمر لدى "نتنياهو"، وهزت الثقة بينهما، فاستبق "يعلون" نية "نتنياهو" بإقالته فاستقال، دون حل الأزمة بينهما، بل زادها تعقيداً، ومما زاد الخلاف بينهما، دعوة "يعلون" كبار قادة الجيش إلى لقاء عقده في قاعدة رئاسة الأركان بتل-أبيب، قبل دخول استقالته حيز التنفيذ مكرراً دعوته لهم بمواصلة التعبير عن مواقفهم، دون اعتبار للتيار المسيطر على سدة الحكم، وذلك رداً على الانتقادات الحادة التي وجهها "نتنياهو" ووزراؤه وأعضاء كنيست، لنائب رئيس الأركان "يئير غولان"، الذي حذر بأن جرائم ارتكبها النازيون ضد اليهود، باتت ترتكب في السنوات الأخيرة في إسرائيل، فسرت هذه الأقوال بأنها موجهة ضد رئيس الحكومة، وعصابات المستوطنين.
ردود الفعل المؤيدة لـ "يعلون" لم تتأخر، فالوزير "آبي غبلي" من حزب "كلنا" والذي أعلن عن استقالته من الوزارة .. دافع عن موقف "يعلون" في تأييده لنائب رئيس الأركان الذي يملك ما يكفي من نقاط الاستحقاق، ووجهات النظر التي يتطلب الإصغاء إليها، والتي تشجع المسؤولين الكبار على قول الحقيقة، رئيس الأركان السابق الجنرال "دان حالوتس" قال: يجب التفكير بالظواهر التي تحدث عنها "غولان"، بحكم أن هذه الظواهر قائمة، ورئيس الأركان السابق "بيني غانتس" قال:"تصريحاته تنطوي على الشجاعة وأن القيم لا تنتمي لليمين أو اليسار"، ورئيس الوزراء الأسبق "أيهود باراك" قال:"إن حكومة "نتنياهو" تحوي بوادر فاشية"، واللواء احتياط "عميرام لفيني" أحد كبار ضباط الموساد السابقين، دعا لإسقاط حكومة "نتنياهو"، فهي" أكثر من ألماحات فاشية، فهي تتحدث عن أنظمة سوداء، بينما تعمل على التحريض وكم الأفواه وملاحقة كل من يطرح أفكاراً مختلفة"، كما أن شخصيات اعتبارية دعمت موقف "يعلون"، وتصريحات "غولان"، التي وصفوها بالصحيحة والمناسبة، ويجب استخلاص العبر، تذكرنا بألمانيا في سنوات العشرينات والثلاثينات كما قالوا، وجرت مظاهرات في تل-أبيب ضد تعيين "ليبرمان" وزيراً للجيش، هتف المتظاهرون: فاشي وعنصري وقذر، كما أطلقوا هتافات ضد "نتنياهو".
وخلاصة القول، فإن ما يجري في إسرائيل، في هذه الأيام، عبارة عن زلزال سياسي، وبذور التفكك تصيب المجتمع الإسرائيلي، ففي استطلاع نشرته جريدة "هآرتس 9-5-2016"، أعرب 88% من الإسرائيليين، عن قلقهم من وضع إسرائيل داخلياً، وأمام المجتمع الدولي، فإن بذور الفاشية تتغلغل في إسرائيل، مع اقتراب زلزال سياسي، قد يستغرق بعض الوقت لكنه قادم، بعد أن أصبحت الحكومة الإسرائيلية، لا وجود لصوت داخلها يخالف ويعترض على سياسة "نتنياهو"، في الوقت الذي أخذت قيادات الجيش تشعر بالملل والإحباط، الأمر الذي سيؤدي إلى تراجع مكانة وهيبة الجيش بين الإسرائيليين، فنتنياهو الذي أمضى أكثر من عشر سنوات على أربع فترات في الحكم، دون أن يحدث أي تقدم في المساعي الرامية للتفاوض لتحقيق السلام مع الفلسطينيين، في الوقت الذي يستمر فيه بناء المستوطنات، بوتيرة سريعة، حتى أن نائب الرئيس الأميركي قال في الشهر الماضي، أن الإدارة الأميركية، لديها شعور طاغٍ بالإحباط من الحكومة الإسرائيلية، فقد فقدت إسرائيل البوصلة السياسية وحتى الأخلاقية، وأن كل هم "نتنياهو" المحافظة على استمراره في الحكم، ويعتبر نفسه فوق القانون.
بقلم: غازي السعدي
التاريخ : 31/05/2016