أبناء غزة الذين عاشوا بها ..وولدوا على أرضها ....ومنهم من دفنوا بترابها ....ولا زال هناك الاحياء ممن يستذكرون الصورة ....بكل ما فيها من جماليات دينية ..انسانية ...واجتماعية .....يستطيعون من خلالها التمييز والتفريق.... وتبيان الفروق ما بين غزة وماضيها الجميل ...وغزة وواقعها المرير .....ورمضان يأتي علينا كل عام بثبات تاريخه ....وباعتباره ركن أساسي من أركان ديننا الحنيف ....والذي نتمسك به ...ونعمل على هديه ...ولا نحيد عن مبادئه .
شهر رمضان المبارك والذي يأتي علينا كل عام ونحن نعيش ظروف مختلفة عن العام الذي سبق ...مما يجعلنا نتساءل ...ونكثر السؤال ....ولكن لا اجابة لسؤالنا ...وتساؤلاتنا ....كما لا اجابة لآلامنا ....وحرمان أطفالنا .
منذ طفولتي.... عايشت رمضان كما غيري .....من أبناء عمري ...كنا نلعب ما بعد الافطار ونلهو ونغني أهلا رمضان ...كما كنا نغني (وحوي يا وحوي) ....ونحن نحمل فوانيس رمضان بفرحة غامرة ...وندق على أبواب الجيران..... لإطعامنا من حلوياتهم مع ان الأطفال الذي كانوا يغنون كانت الحلوى تملأ منازلهم ...لم يكن هناك تسول في ذاك الزمان ...ولم يكن هناك شحدة كما يقال ...ولم يكن هناك دناوة نفس كما يحب للبعض أن يفسرها ....بل كانت هناك محبة خالصة ...وعلاقات اجتماعية أخوية ...وصداقات نزيهة ....وروابط دينية محكومة بتعاليم الدين ...وليست بتعاليم الفصيل .
كانت هناك معالم الحياة الانسانية ....الراقية ....بكل علاقاتها وضوابطها .
كنا نذهب الي المسجد العمري الكبير للصلاة .....واداء صلاة التراويح ....بعد اطلاق مدفع الافطار ليبدأ افطار الصائمين...... هذا المدفع الذي كان على تلة جبل المنطار ....بحي الشجاعية ...وكانت غزة بكافة أحيائها تسمع صدي قذيفته في ظل فرحة الاطفال والكبار ...وأصوات المآذن والمساجد عبر صوت المؤذنين.... الذين يدعون للصلاة ..وليس عبر الميكروفونات التي لم تكن موجودة أو مستخدمة الا بالمناسبات باحتفالات 7 مارس ..و14 مارس التي لها علاقة بالانسحاب الاسرائيلي من قطاع غزة بعد العدوان الثلاثي ....عودة الادارة المصرية للقطاع .
المسجد العمري أكبر مساجد المدينة ...واكثرهم جمالا وعراقة وتاريخ ...كما الكثير من المساجد الموجودة بالقطاع ...المسجد العمري كونه في قلب المدينة .....وفي مركزها وفي منتصف أحيائها الكبيرة ....حيث الأغلبية كانت تتجه صوبه لأداء الصلاة ...وحضور الدروس الدينية التي كانت محببة لقلوبنا.... بحكم من كان يقدمها شيخ جليل هو الشيخ اسماعيل جنينة رحمه الله ....وهو من اكثر المشايخ وجودا بالمسجد العمري لقرب منزله ....كما غيره من مشايخنا مثال الشيخ محمد ناجي ابو شعبان .
غزة الجميلة الهادئة ...بكل عائلاتها وأهلها الطيبين .....والذي يقضون رمضان بنهاره وليله وفق تقاليدهم ...ومعايشه آبائهم وأجدادهم وفي أجواء أمنة ...ومنذ صلاة الفجر والحياة تدب في تلك المدينة.... ليذهب الجميع بالصباح كل الي عمله داخل الحقول الزراعية ...أو الوظائف الحكومية ....في عهد الادارة المصرية ....والي أعمالهم الحرة والتجارية ..... غزة كانت حيوية بنشاطها ...وعملها المستمر ...وأداء دورها ...كما كانت مثال وقدوة للمدينة العريقة والجميلة التي يعيش فيها أناس طيبون ذات جذور ...وذات علاقات وروابط وضوابط اجتماعية ودينية تربطهم ببعضهم البعض علاقات الاخوة والمحبة ... كما كانوا يستقبلون الزائرين الي غزة بكل ترحيب ومحبة ..حيث كانت البعثات المصرية تأتي الي غزة بشكل يومي ...وتتسوق من سوق غزة .
شهر رمضان المبارك ...شهر الخير والبركة والكرم ....كما هو شهر الايمان والصلاة وتلاوة القران ...والاستغفار والتقرب الي الله بالدعاء وطلب المغفرة ....كما الدعاء على كل من ظلمنا وعصف بنا ونال منا .....وجعل منا مجموعة من المحتاجين ....المتسولين ...مشهد غير مريح ...وغير انساني ....واذا ما قلنا غير ديني ....فإننا نقترب من الحقيقة بحكم ما كان يقوم به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ....لإيصال المساعدة للفقراء دون أن يعلموا من أين أتاهم ....كرامة الناس يجب أن لا تمس ....والفقير يجب أن يساعد بطريقة حضارية وانسانية ...وان لا يكون هناك مساس بكرامته .
غزة ....وشهر رمضان كانت مساجدها قليلة ....وأعداد مشايخها قليل ....لكنها كانت تطبق تعاليم الدين بأدبياته وأخلاقياته ...وبكل أركانه وصلواته ...ولم يخرج عن غزة ما يسئ لدينها ...وأخلاقيات أبنائها ....وسلوكياتهم ....ولم يسجل عليهم نقطة سوداء بتاريخهم ....الفقراء كما الاغنياء في هذه المدينة ...مع كل الفرق في مدخولاتهم المادية ....ومستوي معيشتهم وموائد افطارهم وسحورهم ...كنا نتشارك في رمضان زمان ....في موائد الافطار كما موائد السحور ليختلط الاغنياء مع الفقراء ....وليشارك الجميع بهذه الموائد في الاحياء والمساجد دون ايذاء النفس أو المساس بكرامة الناس ....حتي أن المساعدات العينية أو المادية كانت ترسل لمنازل المحتاجين دون ان يتعرفوا ....عن من قدم لهم هذه المساعدة .
اقولها وبصراحة شديدة ...ونحن في شهر رمضان المبارك شهر الصدق بالقول ....والصراحة في الحديث ...ِصدق الذات ...كما الصدق مع الاخرين ....شهر التقرب الي الله سبحانه وتعالي ...والدعاء له بالرحمة والمغفرة ....أن يجعلنا من أهل الصدق ...وأن يبعد عنا أهل النفاق والكذب ...وأن يشرح صدورنا ....وأن يجعل قلوبنا محبة للجميع .
شهر رمضان بكافة تعاليمه وأدبياته وأخلاقياته ....هو جوهر ديننا الحنيف الذي نتطلع اليه ....ونعمل على هديه ونؤمن به ...وأن كل ما هو خارج السياق الانساني والوطني... والحفاظ على امن البلاد والعباد..... يبقي مجرم بحكم الدين والقانون..... وما تم من عمل ارهابي في مخيم البقعة بالأردن الشقيق يأتي في اطار الجرائم البشعة ....التي نرفضها وندينها باستهداف اشقاء أردنيين من جهاز المخابرات العامة الاردنية ....الذين يسهرون على أمن البلاد والعباد ....وأن يأتي استهدافهم في أول ايام رمضان المبارك رسالة اجرامية ..ارهابية .....لا تعبر عن أي هدف يمكن أن يسجل في اطاره الا ذاك الارهاب الاسود المدان والمجرم .
غزة ...ورمضان زمان يجب أن يوثق ...ويسجل ...ويتم توارثه جيلا بعد جيل....حتي يكون عنوانا وهاديا لنا ....وأن يواجه سلبيات الحاضر بهذا الشهر الكريم ....بما توارثناه عن الزمن الجميل .
الكاتب : وفيق زنداح