عجيبٌ أمر هؤلاء الإسرائيليين، المستوطنين في أرضنا، والمحتلين لوطننا، والعابثين بحقوقنا، الذين يقتلوننا كل يومٍ ولا يبالون، ويعتقلون شبابنا ونساءنا ويكررون، ويعيثون في أرضنا خراباً وفساداً ويمضون، ويرتكبون في حقنا الموبقات والجرائم ولا يتوقفون، ثم يطلع علينا كبيرهم المتطرف، وتصريحاته الحمقى تسبقه، وتهديداته العنصرية تكذبه، وسياساته اليمينية تفضحه، فيقدم التهنئة إلى الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية بحلول شهر رمضان المعظم، ويتمنى لهم السلامة والأمن، والرفاهية والسعادة والرخاء، وهو يعلم أن سلامتنا في رحيلهم، وأمننا في الخلاص منهم، ورخاءنا وسعادتنا في العودة إلى ديارنا وبيوتنا، وفي استعادة ممتلكاتنا وحقوقنا، ولكنه يتغابى ويصر على تهنئته لنا، ويتوقع منا أن نبادله التهنئة بالمثل، والمباركة بأفضل منها، ويستنكر استنكارنا لتهنئته ورفضنا لها، وعدم حاجتنا إليها منه ومن حكومته.
ليت الأمر يتوقف عند كبيرهم ورئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو فنسكت ولا نستنكر، ونقنع أنفسنا بأنها مخاطباتٌ رسمية بينه وبين حكوماتٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ تعترف بكيانه علناً، وتتبادل معه الرسائل في المناسبات والأحداث، أو تقيم معه علاقاتٍ سريةٍ، وتتكتم عليها مخافة غضبة الشعوب وانتفاضة الأمة، ولكن ما يزيد العيب فحشاً أن هذه الحكومات لا ترد تهنئته، ولا تصد مباركته، ولا تعتبر أن ما يقوم به استخفافٌ بمشاعر شعوبهم، ومسٌ بكرامتهم وشرف عروبتهم، ولهذا فهي لا تمنع وسائل إعلامها من نشر خبر أو نص التهنئة، فضلاً عن أن تكذبها وتنفيها، أو ترفضها وتستنكرها.
ولكن ضالهم الجديد، وثورهم الهائج المريد، ووزير حربهم السفيه كثير التهديد، أفيغودور ليبرمان المعروف بكرهه للعرب، وحقده على المسلمين جميعاً، حيث لا ينكر أفكاره، ولا يزين كلامه، ولا يحاول التخفي وراء غيره، ويعلن أنه جاء للقتل، واستعد للحرب، وتهيأ لمنازلة المقاومة في دورها، واغتيال قادتها في بيوتها، يبادر كرئيسه بتهنئة الفلسطينيين والعرب بشهر رمضان الفضيل، ويتمنى لهم صوماً مقبولاً وإفطاراً هنياً، ويكلف الناطقين باسم وزارته أن ينقلوا خبر تهنئته، ونصوص مباركته، وأن يعمموا مواقفه الإنسانية عبر مختلف وسائل الإعلام وأدوات التواصل الاجتماعي، وأن يبدأوا بالفلسطينيين الذين ينوي قتلهم، والعرب الذين يتطلع لطردهم، والمصريين الذي يتمنى تعطيشهم بحبس مياه نيلهم وتحويلها، أو بإغراقهم وتدمير سدهم العالي فوق أرضهم، وغيرهم ممن يرى أن يده ستطالهم إن هم أيدوا المقاومة أو انتصروا لها.
توالت بعدهما وهما الأشرين الأسوأين والأسودين أفعالاً، برقيات التهنئة والمباركة للفلسطينيين والعرب، فبادر إليها رئيس كيانهم رؤوفين رفلين، وزعيم معارضتهم يتسحاق هيرتزوغ، وثعلبهم العجوز شيمعون بيرس، وغيرهم ممن يوصفون بالحمائم، ويؤمنون بالسلام، ويتطلعون إلى مواصلة الحوار مع السلطة الفلسطينية، لكن وفق تصوراتهم، وعلى هدي نظرياتهم، التي لا توصل الفلسطينيين إلى حقٍ، ولا تعيد لهم أرضاً، ولا تحقق لهم وعداً، ولا تؤسس لهم دولة، وإنما تبقيهم في دائرةٍ من السراب والوهم والخداع، يدورون حول أنفسهم كالرحى، ويعودون في كل مرةٍ إلى نقطة البدء التي تتراجع وتتبدل دوماً إلى الأسوأ.
يستنكر البعض موقفنا من هذه التهنئة ومثيلاتها، ويرون أننا متطرفين ومتشددين، وحاقدين وكارهين، وأننا نتنكب للمشاعر الإنسانية والعلاقات الطبيعية، ونصر على معاني الكره والحقد، ونربي أولادنا على مفاهيم مرفوضة ومعاني بغيظة، فنعدم السلام وننفخ في نار الحرب، في الوقت الذي ينبغي فيه علينا أن نكون متسامحين وطيبين، وأن نقبل من قاتلنا التهنئة، وأن نبادل من طردنا من أرضنا وديارنا المباركة، إذ لا يجوز الخلط بين الأشياء، والمزج بين الأمور، فهذه إنسانية وتلك سياسة، وللأولى مفرداتها وللثانية قواعدها، والعالم يقدر للإسرائيليين إنسانيتهم ومواقفهم الأخلاقية، التي لا تنسى في ظل الحرب الواجب والحق.
أليست هذه فلسفة وسفسطة غريبة، لا يقبل بها عاقل، ولا يحترمها مسؤول، ولا يجيزها قانون، وما قام بها الأولون ولا اتبعها السابقون، فهذه ميوعة لا يقبل بها الأعداء، ومداهنة لا يصدقها الخصوم، ولكنها في حقيقتها ليست نقيصة وعيباً إسرائيلياً، ونحن الذين نقول "العيب من أهل العيب ليس عيباً"، إذ ما الذي يمنعهم وهم الأعداء من القيام بأي شئ يظهر إنسانيتهم الزائفة، وحضارتهم المخادعة، ورقيهم المزعوم، كما أنهم يحاولون جاهدين بكل السبل الممكنة كسر المقاطعة الشعبية العربية، وخلق حالة من التطبيع والقبول به، من قبل الأمة التي تتعاظم مقاطعتها وتشتد معارضتها، وتتكرس له عداوتها.
إنما العيب فينا نحن العرب والفلسطينيين والمسلمين عندما نقبل بأن يصل الحال بيننا وبين عدونا إلى هذا الدرك المعيب، فقد جرأناه علينا، وأعطيناه الأمان لأن يخاطبنا بهذه الطريقة، وأن يتبجح في تهنئتنا والحديث السافر معنا، وهو الذي لا يتوانى عن إهانتنا، ولا يتأخر في الإساءة إلينا، ويضربنا بذات اليد التي تخط رسائل التهنئة، ويبارك لنا بذات اللسان الذي يهددنا ويتوعدنا به، فلعله في أول أيام شهر رمضان الفضيل قتل واعتقل، وهدم وقصف، وصادر ونهب، ثم لبس الثوب الأبيض وأبدى للعالم طهره وصدقه إذ بارك وهنأ.
إنهم يستخفون بنا ويهزأون، ويضحكون علينا ويسخرون، ويعتقدون أننا بلهاء لا نفهم، وبسطاء لا نفكر، ودراويش لا نحقد، وضعفاء لا نملك حق الرفض، ولكنهم نسوا أنهم يخاطبون حكوماتٍ فقط، ويدغدغون عواطف قياداتٍ تتأمل فيهم ليبقوا، وتتطلع إليهم ليستقر حكمهم، بينما شعوبنا يقظةٌ منتبهة، وواعيةٌ صاحيةٌ، لا تقبل بهذه الأكاذيب، ولا تنطلي عليها هذه الكلمات، ولا تمر عليها هذه الخدع، ألا لا بارك الله فيهم، ولا بارك فيمن صدقهم وآمن بهم وقبل تهنئتهم ورد عليهم بمثلها، فقد أغنانا الله بأنفسنا عنهم، وأكرمنا ببعضنا الصادق عن كلماتهم.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 8/6/2016
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]