توقف المراقبون أمام عملية " تل أبيب " الفدائية الجريئة التي نفذها بطلين من أبناء شعبنا في الضفة الغربية المحتلة . وانشغال هؤلاء المراقبين لم يتوقف عند حدود الجرأة في التنفيذ ، حيث أوقع هذا العدد من القتلى والجرحى الصهاينة ، قبل أن يستشهدا منفذي العملية وحسب . بل أولاً ، في كيفية الوصول إلى تلك المغتصبة الإستيطانية " تل أبيب " التي تفصلها عن مدينة الخليل الكثير من الحواجز والإجراءات الأمنية لقوات الاحتلال " الإسرائيلي " ، التي حالت دون نجاح العديد من العمليات الفدائية ، أما ثانياُ ، من حيث التوقيت والرسائل التي أرادت إيصالها إلى كل الاتجاهات الدولية والإقليمية بما فيها حكومة " نتنياهو " ، والسلطة الفلسطينية ليست بعيدة عن تلك الرسائل .
إن الجرأة التي تمتع بها هذان البطلان ، هي جزء أصيل من المسيرة النضالية الطويلة للشعب الفلسطيني ، الذي اجترح من الظلم التاريخي الذي وقع عليه منذ ما قبل النكبة وحتى الآن ، كل الوسائل والأساليب الكفاحية في مقاومة المغتصب الصهيوني لأرض وطنه فلسطين . وبالتالي هذه الجرأة تعكس تصميم وإرادة فلسطينية على سلوك كل ما تقع عليه يد الفلسطينيين من أجل دحر الاحتلال بقوة المقاومة وبكل أشكالها المتاحة ، من دون إغفال أو إسقاط أن المفاوضات واستجدائها بضاعة كاسدة لم تعد تُغري الشعب الفلسطيني . لذلك ليس بمستغرب ما أبداه هذان المقاومان من شجاعة فاقت التوقعات ، خصوصاً أنهما كانا يدركان أن قوات الاحتلال الصهيوني لن تبقيهما على قيد الحياة ، بمعنى أنهما سيقضيان شهيدين ، وهما قد شاهدا عن كثب عن ينفذ جيش الإرهاب الصهيوني أحكام الإعدام الميدانية بحق الفلسطينيين لمجرد الشبهة فقط . وعليه عقدا العزم متعاهدين على إيقاع أكبر عدد من القتلى والجرحى الصهاينة قبل أن يستشهدا ، وهكذا كان .
أما في كيفية الوصول فهذا شأن يخص المقاومة وأساليب وطرق عملها ، ونجاح العملية أولاً في تمكن وصول منفذي العملية إلى المكان المقرر لها في مغتصبة " تل أبيب " ، وإفلاتهما من كل الحواجز والإجراءات الأمنية لكلا الأجهزة الأمنية الفلسطينية ، ومن ثم " الإسرائيلية " . ومن ثم إطباقهما على من تواجد من الصهاينة المتواجدين في المكان ، وفي القدرة على السيطرة إلى حين تمكن قوات الاحتلال العسكرية والأمنية من قتل أحدهما ليستشهد على الفور وإصابة الآخر ، ومن ثم تنفيذ حكم الإعدام به . هذا النجاح أربك تلك الأجهزة الأمنية ووضعها في حالة من الذهول ، وهذا ما دفع الاحتلال إلى اتخاذ إجراءات عقابية سريعة تمثلت في محاصرة بلدة يطا في الخليل مسقط رأس الشهيدين ، ومن ثم ما أعلن عنه ما يسمى " منسّق شؤون المناطق في الحكومة الإسرائيليّة بولي مردخاي " تجميد 83 ألف تصريح ممنوحة لدخول الفلسطينيين إلى الأراضي المحتلّة في العام 1948 ، وهي بالتأكيد في طريقها إلى هدم منزلي ذوي الشهيدين كإجراء انتقامي اعتمدته حكومة " نتنياهو " ضد منفذي العمليات الفدائية .
أما ما يتعلق بتوقيت تنفيذ العملية ورسائلها ، أولاً هي أتت في السياق الطبيعي لمقاومة الشعب الفلسطيني ، الذي تمرس النضال والكفاح على مدى عقود قضيته الوطنية ومواجهتها لأعتى أنواع الاحتلال والاغتصاب في القرنين العشرين والواحد والعشرين ، وثانياً في ظل الإجراءات الأمنية الغير مسبوقة للاحتلال منذ اندلاع الانتفاضة الثالثة . فهكذا عمليات تكون خاضعة لكثير من التخطيط الدقيق والحيطة والحذر ، خصوصاً أن منفذي العملية قدما من مدينة الخليل ، وتالياً الخوف من تسرب أية معلومة أو إشارة ولو بسيطة للأجهزة الأمنية " الإسرائيلية " أو أجهزة السلطة الفلسطينية التي لن تتردد للحظة واحدة في إلقاء القبض على المجموعة الفدائية ، وهذا ما أكده اللواء ماجد فرج عن أن أجهزته كانت قد أحبطت 200 عملية ضد قوات الاحتلال ومواقعه وحواجزه . ولعلَّ اللافت في التوقيت والرسائل أيضاً من خارج ما سلف ذكره ، أن العملية جاءت بعد أيام على تسلم الإرهابي " ليبرمان " حقيبة الأمن بما فيها الدفاع في حكومة " نتنياهو " ، وبعد أيام على انتهاء أعمال مؤتمر باريس والذي كان محوره البحث في المبادرة الفرنسية السيئة في الشكل والمضمون ، وما تمخض عنه المؤتمر من بيان بائس ومدان ، وأيضاً على مسافة أيام على الذكرى أل 49 لنكسة حزيران 1967 . وبالتالي كثرة الحديث عن تحركات دولية وإقليمية نشطة لتحريك المياه الراكدة في المفاوضات الفلسطينية – " الإسرائيلية " ، أساسها المبادرة العربية بعد إدخال تعديلات عليها تصب في مصلحة الكيان الصهيوني ، وهذا ما دفع نتنياهو وليبرمان في كل من " تل أبيب " وموسكو للحديث عن نقاط إيجابية تضمنتها المبادرة في بعض نقاطها ، وهو ما يحمل على القناعة هو استعجال ودفع طرفي الانقسام في الساحة الفلسطينية ، حماس وفتح إلى تسريع خطوات المصالحة ، وما تشهده القاهرة من حركة نشطة للقيادة المصرية لعقد سلسلة من الاجتماعات مع الفصائل الفلسطينية للاستماع لرأيها والإطلاع على رؤيتها في شأن المصالحة ، بالتزامن مع حماسة سويسرية لاستضافة مؤتمر دولي مخصص من أجل المصالحة الفلسطينية ، وبالتالي ما أبداه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أمام وزير خارجية السلطة رياض المالكي ، من استعداد بلاده استضافة حوار فلسطيني – فلسطيني على أراضيها ، ومع الاجتماع المزمع عقده في العاصمة القطرية الدوحة بين حماس وفتح من أجل التوقيع على اتفاق المصالحة – " إذا ما صدقت نوايا الطرفين ، وأثمرت الضغوط الدولية والإقليمية اتجاهيهما " - ، وهذا ما دفع القيادي في حركة حماس موسى أبو مرزوق إلى القول أن المطلوب خطوة جريئة من رئيس السلطة ، خصوصاً أن مسودة المصالحة جاهزة منذ حوالي الثلاثة أشهر والقضايا العالقة قد حُلت ، وهذا يخالف ما قاله رئيس السلطة في اجتماع وزراء خارجية الجامعة العربية : " إذا أرادت حركة حماس أن تكون شريكة عليها أن توافق على البرنامج السياسي للحكومة الفلسطينية المقبلة " . وفي اعتقادي أن قيادة حماس تبحث في إمكانية تدوير الزوايا بما يتعلق بالبرنامج السياسي والتسليم به من دون أن يقودها إلى الإعتراف ب" إسرائيل " ، ولكن كيف السبيل إلى ذلك ؟ . جميع تلك المسارات تصب في الاعتقاد على أن تلك المصالحة قد تُفرض على الطرفين .
في كل الأحوال فإن عملية " تل أبيب " البطولية قد فرضت وقعها على كل ما ذكر من سياقات تتعلق بالبحث عن مخرجات للصراع مع الاحتلال وإنهائه ، في ظل ارتفاع الكلام عن تسويات قادمة لملفات المنطقة وحروبها ، ولكن لا أحد يعلم متى وكيف ستبدأ !! . وبالتالي القول لنتنياهو وليبرمان إن سياسة القتل والتهويد والاستيطان والحصار والاعتقال بحق الشعب الفلسطيني لن يوصلكم إلى الأمن والأمان الذي ستبقون تبحثون عنه طالما بقي االاحتلال الغاصب لأرض فلسطين ولن تجدوه .
رامز مصطفى