دحلان العقدة والحل

بقلم: محمد أبو مهادي

قبل أربعة أعوام ونصف تقريباً، إلتقيت صدفة بأحد قيادات حماس المتشددين في معبر رفح، كنت ذاهباً للمشاركة في ورشة عمل سياسية عقدت في مصر، وهو ذاهباً في جولة لأكثر من بلد، وكان الإخوان ما زالوا في ذروة حكمهم لمصر وتونس، وفي أوجّ علاقاتهم مع تركيا وقطر، والرهانات على إتمام مصالحة فلسطينية كانت ضرباً من الجنون بالرغم من الزيارات التى حرص "محمود عباس" على تنظيمها للقاء الرئيس المصري المخلوع "محمد مرسي" .

جرت بيننا جولة نقاش سريعة، خلاصتها أن "حماس" و"عباس" غير معنيين بالمصالحة، ولكل منهما أسبابه السياسية والحزبية والشخصية عندما يتعلق بمآلات المصالحة التي ستفضي بالضرورة إلى إجراء إنتخابات رئاسية وتشريعية وخارطة سياسية حزبية جديدة، وفي سياق النقاش إعتبر المسئول الحمساوي أن غياب النائب "محمد دحلان" الخصم الحقيقي في الصراع مع حركة "حماس" عن كل جولات المصالحة، هو وتيار واسع داخل "حركة فتح" سيكون أحد مشكلات إنفاذ المصالحة إن حصلت وأن هذه وجوده عقدة عند حركة "حماس" وعند "محمود عباس" ينبغي البحث الجدي في سبل علاجها بطريقة ما.

لم يكن الرجل منطقياً في حصر أسباب تعثر المصالحة بموقف "محمود عباس" ومراوغاته، لكنه محقاً في مسألة تغييب النائب "دحلان" عن جولات الحوار الوطني، ومتفقاً معي في تحليل أسباب هذا الإقصاء والدوافع الشخصية التي تقف خلف هذا الإقصاء، وأقرّ بالأهمية والثقل السياسي له، وعن أهمية فتح حوار جدّي معه لتفادي ثغرات الحوار الوطني التي جرت في القاهرة واليمن، بل ذهب لأكثر من ذلك عندما قال، "إنه الشخص القوي الذي يمكن معه إنجاز المصالحة".

حركة "حماس" أعلنت في أكثر من مناسبة وعلى لسان أكثر من مسؤول فيها، بأن الحوار مع خصمها الرئيسي "محمد دحلان" لم يعد تفصله سدود، وقابلت مبادراته التي أعلن عنها مؤخراً بشكل إيجابي، وكُتبت مئآت المواقف والتحليلات عن هذا التحول الكبير في العلاقة ما بين حركة حماس والنائب "محمد دحلان"، بعضها يتّهم، وجزء يتوجس، والكثير منها يرى أن هذا التحوّل فكّ عقدة "حماس" التاريخية في العلاقة ما بين حركة حماس والنائب محمد دحلان وتياره المؤثر داخل حركة "فتح" وأطراف من الحركة الوطنية الفلسطينية.

عاصفة المبادرات المتبادلة بين قيادات من حركة "حماس" والنائب "دحلان" أفضت إلى مسار جديد يساعد في ترميم العلاقات الفلسطينية، ويمهد الطريق أمام فك أبرز عقد المصالحة، وحظيت بترحيب أوساط شعبية ونخبوية، لكنّها أربكت حسابات "خالد مشعل" الذي يجلس في "إمارة قطر" رهينة سياساتها الخارجية ومواقفها السلبية اتجاه الشقيقة "مصر"، وقضّت مضاجع "محمود عباس" الذي يدرك أن المصالحة الفلسطينية والإنتخابات ستكونان آخر محطاته السياسية، وسيفتحان الباب واسعاً أمام ملاحقته قضائياً في قضايا الفساد واستغلال المنصب العام والعبث في القضية الوطنية، لهذا سرعان ما أُنتجت بدعة جولات المصالحة في "قطر"، وما تلاها من تصريحات و"تفاهمات" أعلنها "خالد مشعل" وأصبحت مثاراً لتندر الكثير من الفلسطينيين.

الخطأ الفادح الذي إرتكبه جميع الوسطاء ممن إحتضنوا جولات الحوار الوطني أو سهّلوا لها، أنهم أخضعوا الحوار الوطني لموقف حزبين يقرر فيهما شخصين، واعتقدوا حتى لحظة قريبة بأنهما تمثيلاً واسعاً للحالة السياسية الفلسطينية، في حين أن إستطلاعات الرأي الحديثة أظهرت مستوى التراجع الكبير في الثقة بين أبناء الشعب الفلسطيني والفصائل الفلسطينية، للدقة أكثر فإن تدهور الثقة الحقيقي هو مع "محمود عباس" شخصياً، وصل الحد إلى أن أكثر من ثلثي أبناء الشعب الفلسطيني لا يريدونه رئيساً لهم، بما مثله من سياسيات مرتبكة وفشل متلاحق على مختلف الأصعدة، لا يختلف الحال كثيراً عند "خالد مشعل" الذي اغتصب قيادة حركة "حماس" لسنوات طويلة، ومرمر موقفها على عتبات قصور "قطر" وجعل منها حركة متورطة في صراعات لا ناقة لها فيها ولا جمل.
مضت عشر سنوات على عمر الإنقسام، وجرت معه مياه كثيرة في النهر، فحركة فتح لم تعد هي الحركة التي صارعتها حماس لإنتزاع الحكم، و"حماس" لم تعد حركة الإصلاح والتغيير التي إختارها الشعب لتحسين أوضاعه وصيانة حقوقه، وتعيش بقية الأحزاب الأخرى حالة وهن لم تشهدها في تاريخها، حيث فقدت قدرتها على تنظيم تظاهرة واحدة من أجل قضية واحدة سياسية كانت أم إجتماعية وتحقق فيها إنجاز واحد على الأقل لحفظ ماء الوجه وتبرير الوجود.

خارطة سياسية جديدة ومزاج شعبي مختلف عن عشر سنوات مضت، وما يؤكد قولي الذي أدعيه، أن هناك إنتفاضة فلسطينية إنطلقت في الضفة والقدس لم تقررها الفصائل، بل أربكت جميع الفصائل التي تحاول إمتطاء صهوتها، في نفس الوقت إنطلق حراك إجتماعي مطلبي كبير لقطاعات واسعة على غرار الحراك الذي نفذه المعلمون في الضفة الغربية، لا علاقة له بالأحزاب، ولم تستطع الأحزاب ونقاباتها الهيمنة عليه، وسبق الإنتفاضة والحراك المطلبي عدة تحركات شعبية لإنهاء الإنقسام كان أبرزها ما نظمه الشباب في 15 آذار 2011 ومهد لتوقيع إتفاق مصالحة جديد يوم 4 مايو 2011 في القاهرة .
إن إستمرار جلسات الحوار من أجل المصالحة بنفس الطريقة والأسلوب والشخوص، هو إبتعاد عن واقع تغير بشكل كبير بعد عشر سنوات من حكم حماس وعباس، سيكون حوار ملغوم إذا تجاهل الأطراف الحقيقية ذات الصلة وصاحبة المشكلة، مع قطاعات إجتماعية ومهنية وأهلية، وتيارات سياسية متبلورة وتعكس ثقلاً كبيراً في المجتمع الفلسطيني ومؤسساته التمثيلية.

مع تقديري لكل النوايا العربية الصادقة الهادفة لطي صفحة الإنقسام وتوحيد الشعب الفلسطيني، لكن وجب التنبيه إلى ثغرة كبيرة بدأت مع جولات الحوار الوطني، ما زالت تتسع، وأصبح من الضروري معالجتها بعد أن أدار "محمود عباس" ظهره لجهود مصر الرامية لوحدة الحركة الوطنية الفلسطينية والتأسيس لمصالحة شاملة، واختار مساراً جديداً في قطر، رغم معرفته التّامّة لحقيقة وطبيعة الموقف القطري ولعبة التوازنات الإقليمية، ومعرفته الأكيدة بأن قطر لا يمكنها أن تعلب دور إسنادي لصالح إنفاذ إتفاق القاهرة، وأن هناك مصلحة مشتركة مع "خالد مشعل" وليس كل حركة "حماس" في تخريب أي جهد مصري جدّي لإغلاق هذا الملف والتأسيس لمرحلة جديدة.

كنًا نتحدث بشكل مبهم عن أطراف مستفيدة من حالة الإنقسام الفلسطيني، وتدريجياً تكشفت هذه الأطراف، وأصبح "اللعب عالمكشوف" -كما يقول الناس، لدى الشعب الفلسطيني قادة لا يخجلون، يراهنون على بعض المليشيات المسلحة وتمويل بعض الحكومات، "خالد مشعل" و"محمود عباس" يغامران بمستقبل الشعب الفلسطيني، الأول تنفيذاً لرغبات قطرية، والثاني يخلط ما بين النوازع الشخصية والحرص على مصالحه الإستثمارية في قطر، ويستفيد من وجودهما عصابة من السماسرة والتجّار والوزراء والقتلة، قلّة لوّثت الحياة الإجتماعية الفلسطينية، وحوّلوا حياة الفلسطينيين إلى معاناة يومية في مختلف المجالات، دفعوا بالبعض نحو الإنتحار، وعدد كبير إلى الهجرة خارج الوطن، وعدد أكبر من اليائسين والفقراء والمضطهدين، وتناسوا عدداً لا بأس به من الشباب والمناضلين الذين يحذوهم الأمل بالتغيير، الآن هم في غمار معركة مع الإحتلال ومستوطنيه، وغداً مع تغيير الواقع الفلسطيني واختطاط مساراً جديداً نحو الحرية والديمقراطية.
بقلم: محمد أبو مهادي
[email protected]