قبل ما يقارب ثلاث سنوات تعرفت على عائلةٍ سوريةٍ عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لتبقي العلاقة بيننا لفترةٍ ليست بسيطةٍ منحصرةً بين "لايك وشير"؛ إلا أنها مستمرة حتى هذه اللحظة، ليشاء القدر أن تجمعنا تركيا على أرضها، وأتعرف على هذه الأسرة التي أرى فيها عبق الشام وأصالته التي حدثنا عنها أجدادنا مطولًا.
ويومًا دعتني هذه الأسرة الكريمة لزيارتها في مقر إقامتها مدينة مرسين التركية؛ وكعادتي في بدايات تعارفي أكون متحفظا بعض الشيء "كجزء من تركيبتي البشرية "، فبطبيعة الحال هذا أول لقاءٍ واقعيٍّ بيننا، ألا أن ربَّةَ الأسرة والمعروفة باسم "أم باسل"؛ والتي من الوهلة الأولى تشعرك بأنك ابنها ولست بغريب سواء بابتسامتها العريضة، أو سرعةِ بديهتها خاصة في قراءه الأفكار أو بطريقتها في التنبه لمواضع راحتك لتحرص عليها. فأنا لم أشعر أن هناك إنسان يفهمني ونجح في قراءاتي بهذه السرعة أكثر منها؛ فخبرةُ حياتها متميزة؛ وتغلب خبرات جيلها بعشرات المرات، هذا هو الإنسان بعد أن تبريَ عوده الحياة ونارها.
ومن خلال تواصلي مع هذه الأسرة جمعتني جلستان مع ابن هذه العائلة، الشاب العشرينيِّ المدعو "براق"؛ وأنا أقولها وبخبرتي الحياتية البسيطة لم أرتح له في بداية تعارفي، لا لشيء ظهر منه؛ بقدر استشعاري في الوهلة الأولى أن الأرواح لم تلتقي أو كما يقولون "اختلاف في الكيمياء" حصل بيننا. براق، عرفني عن نفسه كخريج كلية " حقوق" ولكنه يعمل مدرسًا "للموسيقى" في إحدى المدارس السورية بتركيا. مما جعلني أستشعر تناقض غريب في شخصيته؛ كيف لمحامي مرافعات وقضاء ويتعامل مع قضايا إجرامية أن يعطي عمره للفن؟، والمعروف أن الفنان هو كتله مشاعر وخيال بعكس قطاع المحاماة التي يجعل المرء مرتبطًا بالمنطق أكثر. من هنا لم استوعب الأمر في البداية. وأقدم العذر لنفسي بأنني ابن "فلسطين الجريحة" فالفن والموسيقى عبر سنوات عمري عمومًا لم تنالا تقديرات حقيقية، هذا في حال إذا نالت أصلا، هذا ما يفرضه علينا نمط الحياة.
وفي اللقاء الأول بيننا وأنا أتأمل به؛ وأشاهد لاجئًا سوريًّا يصارع الحياة من أجل البقاء وهو يحدثني عن طموحاته والتي أستطيع أن اختصرها بسهولةٍ برغبتهِ العارمة بأن يصبح موسيقارًا عظيمًا. وأنا أقولها وبكل صراحةٍ، الموسيقى جميلة وأنا أسمعها وأتذوقها؛ ولكنها ليست بالموضوع الذي يثير اهتمامي لأن الموسيقى لم تكن مجال اهتمامي أبدًا، كما انني ترعرعت في بيئة صلبة "غزة الحبيبة" وهي الأقرب للحياة العسكرية من الحياة المدنية، جعلت من تفكيرنا كفلسطينيين يتبنى الأمور الحياتية الواقعية الى درجة كبيرة.
وأثناء حديث براق المتواصلِ عن أمنياته الموسيقية فقد انتابني شعور بالملل من ذلك، خاصة عنما يتطرق لموضوعات تفصيلية لها علاقة بأنواع الآلات الموسيقية وأهمية الأوتار مثلًا، وقتها؛ جال في خاطري أن أصرخ في وجهه وأقول له "اصمت" وابحث عن حياه واقعية منطقية تعين بها أهلك، ولكي تنجح في خطوبة الفتاة التي أحببتها وأحبتك. إلا أنني حاولت تفهمه بالصمت، من منطلق كوني ضيفًا لا أكثر.
المفاجأة
بعد غيابي عنهم لفترة امتدت لقرابة عام، تفاجأت على صفحة خاصة في الفيس بوك اسمها "هارموني" بحفلات موسيقية وطنية يقوم بها مجموعه أطفال سوريين مبدعين يقفون ويتمايلون ويغنون بشكل احترافي متميز، لقد نالت استحساني واستحسان العديد غيري بالطبع، إلا أنها كانت بالنسبة لي في غاية الدهشة والسبب عندما علمت أن صاحب الفكرة والتصميم والتدريب والتوزيع والإنتاج والإخراج هو ذلك الشاب براق، الحالم غير المنطقي!
جعلني ذلك أقف مع نفسي وقفةً جادةً، وأتساءل ألم يكن لعظماء الفن والذين حفظهم التاريخ رحلات من المعاناة والتحديات! سواء كانوا شعراء أو موسيقيين، وكان آخرهم الفنان الفلسطيني "محمد عساف" اللاجئ ابن أزقة مدينتي خانيونس. ليتسلل لنفسي شعور بأن الإنسان من الممكن أن يكون عظيمًا إن سعى بجدٍ نحو هدفه. فأنا من ابن أزقة وحارات غزة ولاجئٌ فقير الى دكتور أقلب شوارع إسطنبول، تعرفني جيدًا قيادتها وقنواتها الإعلامية. وهذا كان يومًا ما حلمًا بالنسبة لي ونجحت في الوصول إليه. على الرغم بأن الكثيرين وقتها استقبلوا طموحاتي بالضحكات والاستهزاء. لأشعر بتقصيري وظلمي لبراق ولأسعى مرة أخرى على ملاقاة براق والاستماع له ليحدثني عن تجربته وكيف نجح؟ ولكن هذه المرة بعقل أوسع وبفكر أعمق وبقلب أكبر. ليفاجئني أن المسرح الذي يقف عليه الأطفال والعازفين هو من قام ببنائه من أخشاب بسيطة؛ حتى الرسومات على الجدران كانت من أفكاره وتصميمه وربما تنفيذه. ليجعلني أردد في نفسي مقوله "براق على خطى الكبار"، فهكذا طموح وإصرار لا يهزم، الغربة والتهجير والحروب لن تقف عائقًا أمام الطامحين.
ليصل براق لهدفه
ولأنني أؤمن بأن النجاح يحتاج لجهد وطموح وعزيمة وإصرار وإمكانيات، وهو ما لمسته في عيون براق، إلا إنني أعتقد أن براق بحاجة إلى شهرةٍ أكبر من خلال إقامة العديد من الحفلات له ولفرقته في أماكن مختلفة بتركيا؛ وهو قادر على أن يبدع، ليقدم المواطن العربي عمومًا والسوري بوجه الخصوص، على حقيقته محبَّا للحياة. وإن ما تعيشه المنطقة ما هي إلا رحالات عابرة تعالت فيه أصوات الغربان على البلابل لا أكثر ولفترة مؤقتة وستزول بإذن الله.
كفلسطيني أقول
نعم فلسطين قضية الأمة وأعقد الإشكاليات في المنطقة فمنها ينطلق السلام والحرب. وأعلم أن ما تعيشه الأمة العربية من كوارث قد ورثناه نحن الفلسطينيين عن أجدادنا وزرع فينا منذ نعومة أظافرنا. إلا أن هذا لا يعني أن ننسي الشعراء إبراهيم وفدوى طوقان، ومحمود درويش، والكاتب والأديب إدوارد سعيد، والرائي اميل حبيبي وهناك العديد والعديد منهم. وهم من نجحوا في إيصال صوت ونبض القضية الفلسطينية للعالم بكل هدوء؛ ومن هنا فإنني أدعو إلى تنمية المواهب الفلسطينية ورعايتها في كافة المجالات سواء في العلم أو الفن أو الرياضة.
ختامًا: أنهي مقالي بما جاء به الناقد الأدبي الروسي بلنسكي بقوله: "الإبداع ليس لهواً، والمؤلف الفني ليس ثمرة وقت فراغ أو نزوة، إنه يكلف الفنان عناءً وجهدًا. والفنان نفسه لا يعرف كيف استقر جنين المؤلف الجديد. إنه يحمل بذرة الفكرة الإبداعية، كما تحمل الأم صغيرها في أحشائها. وعملية الإبداع تشبه عملية الولادة ولا تنتفي منها الآلام الروحية“. ومن هنا أقول وجب علينا احترام الفن وتقديره. فوجب عليَّ أن أحترم موهبتك يا براق. بوركت جهودك بوركت الأم التي ربت، ومبارك عروسك، هذا المقال المتواضع هو ما جال في خاطري الآن أتمنى أن يكون بداية ما سيكتب عن فنان عظيم في قادم الأيام.
بقلم/ د. محمد أبو سعدة