التأم ظهر يوم السبت الرابع من حزيران المنصرم في كلية القاسمي في باقة الغربية، "مؤتمر إطلاق مشروع مكافحة العنف المجتمعي"، بمبادرة لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل ولجنة مكافحة العنف المنبثقة عنها.
واستهلت لجنة مكافحة العنف بيانها الختامي المنشور بعد انتهاء جلسات ذلك المؤتمر بتوجيهها كلمات الشكر لكل من شـــارك، وخصت من بينهم بالاسم السادة: محمد بركة رئيس لجنة المتابعة، وأعضاء الكنيست يوسف جبارين وعايدة توما عن الجبهة الديمقراطية، والنائب مسعود غنايم عن الحركة الإسلامية الجنوبية، وكذلك رئيس لجنة الرؤساء ورئيس بلدية سخنين السيد مازن غنايم وأربعة رؤساء آخرين ذكرهم البيان بأسمائهم، ليصبح لحضور جميع من ذكروا بالاسم أثر المرآة العاكسة والمكبّرة، فلقد حضروا كمشة وأبرزوا حقيقة غياب معظم قيادات الجماهير العربية القطرية والبلدية والمحلية، وقد يكون هذا قصد من نص ذلك البيان.
يطيب للعرب أن يهنئوا في مثل هذه المناسبات، بمعزل عن النتائج ومساطر النجاح والفشل، وذلك من باب استقفائهم، مجازا، لما نقلته الأجيال عن السالفين من طيب الكلام، مع أن الأصل قد قيل إطراء في الحكّام والسلاطين حين يقضون في أمر ما، فالمبادرون اجتهدوا وأطلقوا أمانيهم متبوعة بسلسة طويلة من التوصيات وهم، لذلك، يستحقون المحاسبة حتى لو لم يحققوا الأهداف التي جاءوا من أجلها؛ فحجم القضية التي يواجهها المجتمع العربي، في الواقع، هي أكبر من حجم مؤتمر صغير استشعر الداعون مقاساته المتوقعة فسموه من باب التواضع والتقية وتفادي صيبة العين واللسان، "مؤتمر إطلاق مشروع.". وآفة العنف المستشري في مدننا وقرانا، أعمق وأعقد من أن يحيط بها من حضروا وشاركوا وإن كانوا، كما قلنا، جديرين بالتحية ونصف الأجرين، لا أكثر.
من يقرأ البيان الختامي لن يجد جوابا واضحا وصريحا على ما هو العنف الذي جاءوا من أجل محاربته، وما هي مصادره، وهذا ما أدى بشكل طبيعي لأن ينتهي المؤتمر من غير تقديم مقترح عملي متكامل واضح المعالم والهيكلة وقابل للتطبيق. أمّا بشرى إطلاق مشروع "تحصين المجتمع ومكافحة الإرهاب"، كما زفها المؤتمرون للمواطنين والعالم، ستبقى ليس أكثر من شعار وزينة ومثل قطعة "الكنافة" العربية التي توزع في أفراحنا وأتراحنا على السواء.
أي محاولة لتفكيك نص البيان وما احتواه من توصيات لن تفضي لأي نتيجة مطمئنة ولن تأتي بفائدة. فتوصيات الفصل الأول وجّهت إلى "داخل المجتمع الفلسطيني"، لكنها كتبت بلغة تعميمية (سوبرماركتية) تشبه لغة البيانات الشعبية العربية التقليدية، تلك التي تقول بلغة الطير كل شيء ولا تقول بلغة البشر العاديين أي شيء.
في المقابل نجدهم قد ركّزوا في الفصل الثاني على النشاطات بين" المجتمع الفلسطيني والدولة"، لكنهم فعلوا ذلك بحشمة مقصودة وتعويمات توفيقية مألوفة تعكس، في الحقيقة، قصور وعبثية خطاب قياداتنا السائد، وتسفر عن طبيعة الأزمة التي تعيشها هذه الهوية، تماما كما يحصل في كل مرّة تضطر هذه "الهوية" وأصحابها إلى مواجهة بعض تجليات إشكاليات تعريفاتها لمعنى المواطنة الكاملة للجماهير العربية، وتطبيقاتها في دولة لا تستسيغ هضمنا، كما نحن، مواطنين كاملين، وكثيرون منا، على النقيض،لا يريدونها لنا أما شرعية ولا درّة أو حتى حاضنة مرخصة، لكنهم يطالبونها بأن تعترف بنا أولادا لها على أن تقبل هي أن تكون دولة لجميع مواطنيها؛ فما هي دولة المواطنين هذه وكيف ستكون وقد ولدت كبنت لصهيون؟
صانع المناخ صاحب القرار
قد يُنسى ما كان في باقة الغربية ويصير سطرا في مرثية المحاجر والزيتون، وقد يضطر الباحثون إلى مراجعة ما حصل وكيف كانت الخواتيم، لكنني وبعيدا عن تلك النهايات، أرى في غياب العشرات من رؤساء المجالس والبلديات العربية وأكثرية أعضاء الكنيست العرب، أوضح العواكس للأزمة الكبرى التي تهرّب من ملامستها محررو البيان، وتمنعوا من نبشها عاجزين، مع أنها تعصف بقوة في أواصر مجتمعنا.
إنها أزمة المناخات الفاعلة والطاغية، فكل شيء في الحياة وفي الطبيعة يولد في مناخ ما وبيئة، ومن يتحكم في ذاك ويؤمّن كيف تكون تلك ويخصّبها، يتحكم في الأعناق والأرزاق؛ فالدولة ومؤسساتها، بلا ريب، من صنّاع ما يسود بين العرب من مناخات، والقيادات العربية القطرية والمحلية ومؤسساتها هي كذلك، وهيئات المجتمع المدني ومؤسساته شركاء في تكوين بعضها، أما الحصة الوازنة تبقى للحركات والأحزاب الدينية ومؤسساتها ولبعض قادتها ووعاظها.
لم ينجح المؤتمر باختراق أي من تلك الساحات والأطواق، وفشل، عمليا، في التمهيد إلى خلق مناخ عام منافس قد يشكل في المستقبل حاضنة للتغييرات المرتجاة، كما توخي منه. فما جرى في مؤتمر باقة الغربية لم يكن أكثر من قرصة بعوضة في جسم فيل ضخم.
المشكلة أن البعض قد اكتفى بالتوصيف وبرروا عزوف القيادات الواسعة والجماهير العريضة وعدم مشاركتهم في المؤتمر، بوجود هوة سحيقة بين تلك الجهات والجموع ومؤسساتها القيادية لاسيما التي دعت ورعت الحدث.
وعند التوصيف توقفوا بدون أن ينتبهوا إلى أن الكارثة تختمر في وجود تلك الهوّة، وأنها تشكل عمليا أحد أهم الصهاريج التي في جنباتها وعلى أبخرتها تتفاقس فيروسات الجريمة، وتتوالد أمساخا ضارية، وفيها يفشو العنف ويتمظــــهر بيننا؛ فالقادة والنخب المتنفذة المتغيّبون، خاصة عشرات رؤساء البلديات والمجالس العربية، هم في الواقع سادة الساحات والشوارع وأبطــــال المنصات والمنابر والقابضون على مفاتيح اقتصاد بلداتهم ومراكز المنفعة والتوظيف والتعاقد والصرف والقبض، وكثيرون يعرفون أن بعضهم نجح في الوصول إلى موقعه بعد دك الحصون الوطنيـــة وسقوط قلاعها في بلداتهم الحمراء ومثيــــلاتها، وما تلاه من انحسار في دور الأحزاب السياسية الوطنية، وما أفضى إليه كل ذلك من واقع/مناخ جديد برزت فيه ثقافة الجريمة والعنف والرذيلة وقوامها: الاستعانة بثلل بشرية مشبوهة الأصول والدوافع، الاعتماد على سياسة "حكّيلي بحكيلك" حتى في العلاقات مع الدولة ووزاراتها، ومأسسة نظــام الرشوة إلى أن بات الراشي والمرتشي والرائش أشخاصا ذوي نفوذ تتقرب إليهم العامة والحشود لتأمين مصالحها وأمنها ولقمة عيشها.
إنها دورة المناخات وتقلباتها في حياتنا العامة: فصناع المناخات مهّدوا بعناية لولادة عهود رمادية جديدة تخلف ما أرساه الأوائل في حياتنا العامة، وسلّموا العهدة لصناع مناخات جدد، من لحمنا ودمنا، والنتيجة: مجتمع كامل يعيش مقبوضا عليه من مقتليه. فكيف إذن سينجح مؤتمر غاب عنه كثيرون من صنّاع المناخات أصحاب النفوذ والبارود والثراء في تحصين المجتمع ومكافحة الجريمة؟
لن يختلف اثنان على أن الدولة ومؤسساتها تضطلعان بأوفر الأقساط والمسؤولية عن خلق مناخات الجحيم وتوفير شروط تفشي الجريمة والعنف بيننا، وبما أن الجميع يجمع على هذه الحقيقة أستطيع القول إن المؤتمر لم ينجح بدق أبواب الدولة ولا أن يخلق فرصة للتفاعل الإيجابي مع أجهزتها ومؤسساتها ذات العلاقة والصلة، وفي طليعتها تلك الوزارات والجهات التي تقع على مسؤولياتها مهمة تنفيذ ما أوصى به المجتمعون في باب بين "المجتمع والدولة". المزايدات واختلاف وجهات النظر المبدئية بين المشاركين أدّيا إلى إغلاق هذه النوافذ وتحويل كل ما قيل وما كتب في هذا الباب إلى مجرد شعارات مجففة خريفية باهتة ستسبب مزيدا من الخسائر واستمرار التخبط والتهرب والعجز.
لقد أغفل المجتمعون دور بعض المجموعات الدينية، ومن يقف باسمها على المنابر وفي الهياكل والميادين، وتأثير بعضهم في تكوين مناخات أنتجت أفكارا متزمتة متطرفة أدت إلى تصدع مجتمعاتنا وحدوث بعض الممارسات الخطيرة الضارة بمصالحها.
فظواهر التكفير المتزايدة وتصاعد عمليات القمع الديني والترهيب في العديد من قرانا ومدننا وتفشي الخطاب الطائفي العصبوي الجارح كلها عناصر ساعدت على خلق مناخ تحت قبته مورست وتمارس، جهارا أو خفية، أعمال العنف على أشكاله: ضد الآخر المختلف وبينهم المثليون والنساء، وضد الفنون بأشكالها والمبدعين والرياضة والرياضيين والقائمة طويلة طويلة.
لم يخل المؤتمر من مشاركة أفراد كان وما زال لهم دور في تنمية ذاك الخطاب المتعصب، وفي تكوين أحد أكثر المناخات طغيانا في حياتنا العامة، ولذلك لم تكن توصية المجتمعين في البند الثامن "برصد جميع مظاهر العنف الذي يستند إلى استغلال الدين وتحريف قيمه التي تمارس ضد أفراد أو فئات من الدين نفسه أو بين الأديان.".. أكثر من محاولة بائسة لصبغ واقعنا بالرياء والمواربة، وللتهرب من مواجهة قضية مهمة يجب أن تناقش بروية ومسؤولية ونضوج وطني كامل. وهذا ما سأحاول القيام به في المستقبل.
"الدنيا حانوت الشيطان" قالت العرب وأيامهم ثلاثة: معهود ومشهود وموعود؛ فأمسنا، قبل مؤتمر العنف، بقاء في الوطن معهود، وحاضرنا، مع مؤتمر العنف، حيرة والتباس وتردد مشهود، ويبقى صنّاع المناخ هم أسياد العباد وأصحاب القرار، فمتى وكيف سيكون مستقبلنا جنى موعودا؟
جواد بولس
٭ كاتب فلسطيني