الشرق الأدنى القديم (لاحقا المشرق العربي) لم يعد مَشرق ولا أدنى ولا قديم ولا حديث...فلا بلاد ما بين النهرين ولا أختها بلاد الشام كانا هذا المشرق القائم الآن...فقد تدنست حضارات المشرق بأربعمائة عاما من الظلام العثماني والأستانه والباب العالي...وجاءت بعدها دول الإستعمار الأوروبي (بريطانيا وفرنسا) لتُدنس وتَدوس على تلك الحضارات ووضعت التقسيم الذي اصبح دُولا لا دَوله...وتم جلب الأوروبيين لقلبه "فلسطين" كعنصر تفجير دائم ليحافظ على تجزئته من جهة ومن الجهة الأخرى ليسيطر على ثرواته ويمنع تقدمه وتوحده...لم يَكفي هذا بل جاءت أساطيل وجيوش أمريكيا وحلف الناتو لتحطمه وتقسم المُقسم وتدعم الفكر الوهابي والديكتاتوريات الملكيه غَير الأصيله التي لا نَسبَ لها ولا عُمق لها سوى الوحشيه والقتل والتطرف، فخلقت "القاعده" بمساعدة تلك الديكتاتوريات لتحرر أفغانستان من الملحدين الكفره وتُنهك ما كان يسمى الإتحاد السوفيتي ولتقضي على التعدديه الدوليه وتصبح القطب الأوحد والشرطي العالمي الذي يفرض شروطه بالقوة العسكريه والإبتزاز والحصار ولاحقا بالإرهاب بعد الفشل في غزو أفغانستان مجددا والعراق لاحقا.
الشرق الأدنى القديم أصبح قاعده للإرهابيين المدعوميين إستخباريا وإقليميا بإسم الدين الإسلامي كنتيجه للسياسه الأمريكيه والغربيه التي حاولت أن تفرض ديمقراطيتها وليبراليتها وحداثتها عليه ومن خلال الغزو المباشر أو من خلال شيوخ الوهابيه والسلفيه الرافضه لأي تجدد وإصلاح جذري للمفهوم المورث دينيا ومن خلال ما أصبح يُعرف بالأسلمه السياسيه التي جوهرها سياسي وشكلها الخارجي إسلامي، وكل هذا وفق أحد المحاضرين في "ألمانيا" ناتج للنزعه الغربيه للسيطره على الطاقه، بمعنى إستمرار لسياسه السيطره على ثروات الشعوب، وحيث أن الشرق الأدنى القديم ليس فقط حلقة الوصل لطريق الحرير بين الشرق والغرب، بل مليء بالطاقه بأصنافها المختلفه وطريقها أيضا لأوروبا، فكانت السياسه الغربيه ولا تزال تعبر عن الجشع ونزعة السيطره بدل إعتماد سياسة الأمم المتحده في إحترام سيادة الدول ومفهوم المنفعه المتبادله بما يحقق السلام العالمي ويؤسس للتعاون والتنافس الشريف وعلى أساس القانون الدولي.
بلاد ما بين النهرين دُمرت ولا تزال ترزح تحت نيران الرصاص والفكر الطائفي والمذهبي والإنفصالي الكردي، و "قلب العروبه" سوريا دُمرت والمحاولات لتقسيمها جاريه بإسم الدين وبإسم الثوره وبإسم تغيير النظام وبإسم الطائفيه والمذهبيه المقيته، دولتان الأولى أخطأ رئيسها المرحوم "صدام حسين" بالحرب ضد إيران أولا وثم قام بخطيئته الكبرى بغزو "الكويت" وإحتلالها، ولكن كانت العراق في عهده دولة متماسكه وكان من الممكن أن يكون لها مستقبل حقيقي كدوله لو أحسن قيادتها، لكن "المرحوم" فضل الشعارات الطنانه والتحالفات الكاذبه على الإستمرار في بناء الدولة العراقيه، فأعطى بذلك تبريرات لتدمير العراق وجيشه، فالهدف لم يكن المرحوم "صدام" بل الجيش العراقي والعلماء العراقيين والدولة العراقيه، وهذا ما حدث، رحمه الله فقد أدت سياسته لإرجاع العالم العربي أكثر من خمسين عاماً للوراء ولا يزال التدهور والتدمير في بداياته...الدوله الثانيه هي سوريا "القلب النابض للعروبه بحق"، دوله رفضت السياسات الغربيه والأمريكيه على الأخص، وكانت مكتفيه ذاتيا ولا ديون عليها، ورئيسها الحالي الدكتور "بشار الأسد" كان يقود عملية إصلاح داخلي شامله رغم ما شابها من فساد وهذا شيء طبيعي في معظم الدول الناميه، سوريا وقفت مع إيران وحزب الله والمقاومه الفلسطينيه وبالأساس"حماس"، وهي الآن تدفع ثمن هذه السياسه، سوريا تُدمَر بإسم القضاء على الصفويه والعلويه النصيريه كما يُسمي ذلك الإرهابيين ومن يَحمل افكارهم ويقول على نفسه مُعتدل دينيا، سوريا تُذبح بإسم تغيير النظام، الدوله السوريه يتم تحطيمها بإسم المذهبيه السنيه السياسيه وأغلب أهل السنه بريئين من تلك السياسات، الشعب السوري يُهجر ويُقتل بأيدي جيوش الإرهاب وداعميهم من الغرب وأتباعهم الإقليميين ويتم إستغلال مفاهيم دينيه موروثه عفى عليها الزمن ولا تَصلح ولن تَصلح لزمننا ولكن تُستخدم للتحريض والتحشيد لإستمرار عملية التدمير المُمَنهجه...أما فلسطين فحدث ولا حرج، فلا مكان لها الآن في ظلِّ هذه الدماء المنهمره كالمطر على أرض الشرق الأدنى القديم...بقي الأردن حتى الآن بعيدا ولكنه في عين العاصفه، فاللهم إحميه من شرور الغرب وشرور الفكر الوهابي القاعدي والداعشي والنصروي وغيرها من المسميات.
دماء تنهمر، وقتلى بعشرات الآلاف تمتد في دول العرب من شمال أفريقيا والشرق الأدنى القديم وجزيرة العرب، في ليبيا مذابح بين سياسيي أهل السنه وأهل السنه، وفي مصر سياسي أهل السنه يريدون تقويض الدوله المصريه والجيش المصري وإنهاكه، وفي البقية الإرهاب السياسي السُني يحاول أن يزعزع الدول الباقيه، اما الشرق الأدنى القديم فأنهاره وبحيراته مليئه بالدماء ولونها أحمر وأرضه تحتضن الجثث منها ومن القادم إليها من كل أصقاع العالم، واليمن الفقير في جزيرة العرب تُدمره زعيمة العالم السُني السياسي بإسم محاربة إيران الشيعيه، بيوته الفقيره تُدمر، وأطفاله الجوعى والذين يعانون سوء التغذيه ونساؤه المظلومات والمقهورات وشيوخه يُقتلون بوحشيه لا مثيل لها وبطائرات وقنابل أمريكيا وفرنسا وبريطانيا...سياسيي أهل السنه وبعد هذه السنيين من الدماء وبعد كل هذا الدمار لم يتعلموا بأن الحلول دائما سياسيه وعبر الحوار، لأن العنف يولّد العنف والإرهاب، وهم قبل غيرهم يتحملون أعباء كلّ هذه الدماء وهذا الدمار، هُم من قوّض العروبه وحاربها زمن الراحل الخالد "جمال عبد الناصر"، وهم من يُقوّض البقيه الباقيه منها، ولسنين طويله لن تلتئم الجروح ولن تُشفى، فلا عروبه تستطيع الآن جمع الشمل ولا أسلمه سياسيه، سنية كانت أم شيعيه، وطريقة حكم الإخوان المسلمين فشلت وسبب الفشل ليس ما حددث في مصر فقط من سوء قياده وحكم وعدم شراكه مما أدى لثورة ثم إنقلاب، بل للدور التركي الأردوغاني الإخواني التآمري المتحالف مع حلف "الناتو" ضد سوريا العروبه، وأيضا لموقف حركة "حماس" وتدخلها في شؤون الدول العربيه وبالذات في "سوريا" التي كانت حضنها الدافيء، وبدل أن تصمت وتُحيد نفسها، قالت في تبرير لتدخلها أنها مع الشعوب وما تريده الشعوب وبالتالي هي مع الشعب السوري، ونسيت أنها كانت في حضن الدولة السوريه ورئيسها "الدكتور بشار الأسد".
المواطنه للجميع والعلمانيه للدوله وفقاً لتقاليدها وطبيعتها وليس علمانية الغرب، والديمقراطيه والتعدديه السياسيه والثقافيه والدينيه والمذهبيه وإحترامها، والإصلاح الديني برفض الموروث والفتاوى والتشريعات التي تُحرّم، رغم أن التحريم إختصاص إلهي محض، والإعتماد على العلم والتطوير الذاتي وبناء الإنسان كرأسمال للوطن والدوله، والعلاقه الجيده وحسن الجوار مع جميع الدول المجاوره الأصليه التي يمتد جذورها لما قبل ظهور العرب، هي الأساس لإعادة الإعتبار للإقليم وسيادة دُوَلِه، للوطن الممتدد من المحيط إلى المحيط، عربا وكردا وطوارق وأمازيعيين وغيرهم، وطنٌ ليس عروبي محض، ولا إسلامي محض، وطن للإنسان والأنسنه، وطنُ للجميع تسوده المواطنه والقانون المدني...ومع ذلك يبقى سؤال الصحفي اللبناني المُخضرم "سامي كليب" هو الأساس: " هل ثمة من لا يزال يرى ويسمع ويفكر في هذا الوطن العربي الذي يحترق من محيطه إلى الخلج بأوهام جديده تجدد أوهام الجاهليه؟ هل ثمة من هو قادر على إجتراح مشروع جدي اليوم. أم أن علينا دفن العرب والعروبه إلى غير رجعه؟ هل إنتهى العرب؟.
بقلم/ فراس ياغي