الحالة الفلسطينية بين الموضوعي والذاتي

بقلم: عماد شقور

الحالة الفلسطينية موضوعيا بخير وبتحسن متواصل. اما ذاتيا فالوضع الفلسطيني برمته في أسوأ حال. لكن، وخوفا من سقوط فلسطيني لاحق الى ما هو اشدّ سوءًا، لا اقول واثقا اننا وصلنا القعر، ولم يبق من بديل امام حالتنا الا التحسن والصعود.
عندما نقول "موضوعيا"، في هذا السياق، فانه يعني نظرة وطريقة تعامل الآخر معنا ومع قضيتنا، وفي هذه الحالة فان "الآخر" هو كل من ليس فلسطينيا، ويملك قوة تأثير في احداث منطقتنا والعالم، سواء كان ذلك التأثير مستندا الى قوة عسكرية (مثل امريكا)، او اقتصادية (مثل اليابان)، او اخلاقية (مثل دول شمال اوروبا). وعلى هذا الصعيد هناك مستويان: ايجابي، بمعنى نظرة تلك القوى المؤثرة وتعاملها معنا؛ وسلبي، بمعنى نظرة تلك القوى وتعاملها مع اسرائيل والاستعمار الاسرائيلي.
منذ اكثر من عشر سنين، وتحديدا: منذ انتهاء الانتفاضة الثانية، عاد مدّ دعم الفلسطينيين ومناصرة قضيتهم العادلة، على الصعيد الدولي، والرأي العام العالمي، الى الارتفاع بوتيرة سريعة احيانا واقل سرعة احيانا اخرى، ولكنه حافظ على اتجاه الصعود بشكل دائم. وحتى عندما انشغل العالم بالاحداث في المنطقة العربية، التي يسميها كثيرون "الربيع العربي"، بينما هي، في اعتقادي، "الشتاء العربي" الذي يسبق الربيع، (ولكنها، في كل الحالات، خروج من "الخريف العربي" المخجل)، وقادت تلك الاحداث الى توصل حكومة اسرائيل الى قناعة ان العالم بدأ يأخذ بوجهة نظرهم، وان كل قضية فلسطين وضعت في الادراج المنسية، وان ابواب التطبيع مع العرب قد فتحت امامها دون اضطرارها للتطبيع مع الشعب الفلسطيني، مع كل ما يعنيه ذلك من اقرار بالحقوق الفلسطينية وما يترتب عليه، عادت قضية الفلسطينيين العادلة تفرض نفسها على كل صعيد، وليس بفضل الاداء الفلسطيني الرسمي، حتى لا نقول: رغم الاداء الفلسطيني، الذي لم يكن، بقدر ما هو ممكن ومطلوب.
هذا التطور الموضوعي لمصلحة قضية شعبنا العادلة، تلاحظه اي نظرة سريعة لما تنشره وسائل الاعلام العالمية، منذ سنين، من نتائج استطلاعات رأي، تفيد بما ملخصه وفحواه ان ثلثي المواطنين العاديين المستطلعة آراؤهم في اوروبا تقريبا، يناصرون الحقوق الفلسطينية، ويتخذون موقفا سلبيا من اسرائيل وسياساتها، في حين ان نحو الثلث من صنّاع القرار في القارة الاوروبية باتوا يعلنون صراحة، وبطرق شتى، موقفا كهذا. اما في امريكا الشمالية، الولايات/الدول الامريكية المتحدة وكندا، فان حوالي ثلث المواطنين العاديين هناك باتوا يناصرون المواقف الفلسطينية، ويدينون السياسات الاسرائيلية. والملاحظ بوضوح، ان تطورات الامور في هذا الاتجاه آخذة في التوسع، وبوتائر متسارعة.
في الاشهر القليلة الماضية، وفي الشهرين الاخيرين بشكل واضح اكثر، تعامل الفلسطينيون بايجابية مع المبادرة الفرنسية لعقد مؤتمر دولي حول القضية الفلسطينية واسرائيل، والذي يعني عمليا انهاء التفرد الامريكي بملف الصراع مع اسرائيل. ولهذه المبادرة رائحة شبيهة برائحة "مؤتمر مدريد" 1991، التي بادر اليها الرئيس الامريكي جورج بوش، وكان "مهندسها" وزير خارجيته جيمس بيكر، وعندما تعنت رئيس حكومة اسرائيل اسحق شامير اليميني المتطرف، وزعيم عصابة "ليحي" سابقا، عاقبت امريكا اسرائيل بتأخير ضخ عشرة مليارات دولار لاستيعاب نحو مليون مهاجر يهودي، (وغير يهودي)، من روسيا وغيرها اثر انهيار الاتحاد السوفياتي.
رضخ شامير وشارك، على مضض طبعا، في ذلك المؤتمر، (وكان نتنياهو في ذلك الحين هو النجم الصاعد والناطق بلسان الوفد الاسرائيلي). ولكن تراجع ورضوخ شامير لم يغفر له، وتم، (بالطريقة الامريكية المعروفة، عبر عملية انتخابات ديمقراطية في اسرائيل)، اسقاط حزب شامير (الليكود) وتحالفه، واستبداله بحزب العمل، وتشكيل اسحق رابين للحكومة الاسرائيلية، التي اعترفت، (لاول مرة في تاريخ الحركة الصهيونية واسرائيل)، بوجود الشعب الفلسطيني، وبمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا له.
تعاملت اسرائيل باستخفاف بالمبادرة الفرنسية. رفضتها وشنت حملة ضدها وصلت حد اعتبارها تعطيلا (!) لامكانية التوصل الى تسوية وحل مع الفلسطينيين. واذ فشلت استعانت بامريكا، ولم تسعفها، ولجأت الى الاقرب اليها بين دول المجموعة الاوروبية، ولم تسعفها تلك المحاولات ايضا، وحاولت التسلق بتبني وقبول المبادرة المصرية، التي اطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي، ولكن الرد المصري لم يتأخر، واكد ان مصر تساند وتتعامل بايجابية مع المبادرة الفرنسية وهي شريكة فيها، وان المبادرة المصرية ليست بديلا ولا منافسا للمبادرة الفرنسية. ثم عوّلت اسرائيل على دور تخريبي يلعبه وزير الخارجية الامريكي جون كيري، ولكن ذلك لم يعط، رغم سوء النوايا الامريكية المعروفة.
انتقالا من الاشهر القليلة الماضية، التي قالت اسرائيل في بدايتها ان وزير الخارجية الفرنسي (السابق) لوران فابيوس سيغادر موقعه، وسيكون خلفه جان مارك متحررا مما التزم به، وستتغير سياسة فرنسا.
جاءت النتائج عكسية تماما. ولعل اكثر ما يوضح ذلك تسجيل ما قاله الوزير الجديد، الذي حاول استرضاء اسرائيل، ولم يفلح في ذلك. مما قاله الوزير الجديد وهو يغادر اسرائيل بعد لقاء عاصف مع نتنياهو: "نتنياهو يرفض المبادرة الفرنسية، لكننا ماضون بها رغم هذا الرفض". ثم قال في الاسبوع الماضي لنتنياهو: "قطار المبادرة الفرنسية غادر المحطة، ولا سبيل لارجاعه". وقبل ايام راهنت اسرائيل على فشل فرنسا في تجنيد الاتحاد الاوروبي لمساندة مبادرتها، ولكن اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الاوروبي قبل يومين تبنى المبادرة الفرنسية، وقال وزير خارجية لوكسمبورغ: "تم اقرار التأييد للمبادرة الفرنسية باجماع من وزراء خارجية الاتحاد الاوروبي".
وعلى الجانب الامريكي اصبح بالامكان سماع نغمات سياسية جديدة، مختلفة تماما عما عهدناه. وعلى سبيل المثال فان خلافا نشب الاسبوع الماضي في الجلسة الاولى لـ "لجنة التوجيه" الخاصة بالحزب الديمقراطي، التي تعد بيان الحزب وتنشره في ختام مؤتره في الشهر المقبل، ويقر فيه نهائيا اسم مرشحه للانتخابات الرئاسية الامريكية بعد اربعة اشهر. كان الخلاف بين الاعضاء الذين اختارتهم هيلاري كلينتون لعضوية تلك اللجنة، والاعضاء الذين اختارهم منافسها القوي ساندرس، حيث يصر من اختارهم هذا الاخير، على تضمين بيان الحزب الديموقراطي كلمة "الاحتلال"، في وصف ومعالجة قضية الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، اضافة الى تضمينه فقرات بلهجة يفهم منها دعم الفلسطينيين وفقرات حول معالجة موضوع القدس، كما سُمعت في الجلسة تعابير على شاكلة "اصبحنا اسرى لوبي ايباك"، مجموعة الضغط اليهودية الامريكية.
هذه النسب والتطورات على الصعيد الدولي كبيرة وهامة، خاصة اذا عرفنا ان تأييد الفلسطينيين ومناصرتهم صراحة بهذه النسبة المئوية او تلك لا تعني ان جميع الباقين لإتمام النسبة الى مئة بالمئة يناصرون اسرائيل، حيث ان نسبة عالية من المستطلعة آراؤهم يتوزعون بين نسبتَي من لا يجيبون على السؤال ومن لا رأي محددا لهم. وغني عن القول ان ما تنجزه نشاطات لجان مقاطعة اسرائيل دوليا، على الاصعدة الاقتصادية والعلمية والفنية والاكاديمية خير دليل على ما ذهبنا اليه.
لا يعني ما تقدم ان المبادرة الفرنسية "كاملة الاوصاف". فهي لم تتضمن صراحة الاعتراف بالحقوق الفلسطينية كاملة، والعمل على تطبيقها رغم رفض اسرائيل لها. الا ان جرّ اسرائيل الى مؤتمر دولي يبحث قضية الصراع مع العدو والاحتلال، يشكل نقلة ايجابة كبيرة، ويبشر بخير قادم.
لكن كل هذه التطورات الايجابية، على اهميتها، ليست كافية لاحراز الهدف: اقامة دولة فلسطينية مستقلة واسترجاع حقوق الشعب الفلسطيني..

عماد شقور

٭ كاتب فلسطيني