"الفرنسية" مبادرة حقيقية أم حقنة تخديرية؟

بقلم: علي الصالح

الدول الغربية الكبرى، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وربما المانيا أيضا، غير معنية بايجاد السبل الكفيلة بحل الأزمات، لا سيما تلك التي في منطقتنا الشرق أوسطية، بل تقدم بين الحين والاخر على حقن المنطقة بحقن تخدير، والمثال على ذلك طبعا، أم الازمات القضية الفلسطينية.

وتسعى هذه الدول لاحتواء هذه الأزمات وإدارتها وفقا لمصالحها، وتستخدم اسرائيل كذراع ضارب، إن تطلب الأمر ذلك، لذلك تعمل على ابقائها عسكريا، القوة المهيمنة على مجمل دول المنطقة.. وهذا ليس كلام مقاه ولا طواحين هواء.. بل جاء على لسان هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي اليهودي الديانة في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، في النصف الاول من سبعينيات القرن الماضي.

ويقول هذا السياسي الداهية "ليس من مصلحة الولايات المتحدة أن تحل مشكلة في العالم.. لكن من مصلحتها ان تمسك بخيوط المشكلة وتحرك الخيوط وفق المصلحة القومية الأمريكية".إذن عندما تكون هناك مصلحة لهذه الدول في حل قضية ما، تتوفر الإرادة والقرار وتتحرك هذه الدول وتطوع لخدمتها الكثير من الأدوات، في مقدمتها الأمم المتحدة، وتفرض "الارادة الدولية؟".

الامثلة على ذلك كثيرة ونورد منها أزمة البوسنة والهرسك في تسعينيات القرن الماضي، فبقرار دولي أو بالأحرى قرار امريكي، فرضت المصلحة الاوروبية، لوقف أعمال القتل والجرائم والمجازر التي ارتكبها الصربيون ضد المدنيين العزل، لاسيما الاطفال والنساء في البوسنة.. وتوقفت الحرب وطورد من وقف وراءها حتى اعتقالهم ومثولهم امام محكمة الجنايات الدولية. وفي حالات اخرى تفرض مصالح هذه الدول اختلاق أزمات، كما في العراق وليبيا وسوريا واليمن والحبل جرار.. فتكالبت هذه الدول ونخص بالذكر الولايات المتحدة وبريطانيا ودول اخرى ناطقة باللغة الانكليزية (كندا واستراليا)، التي تصطف دوما الى جانبهما، ضد العراق قبل أكثر من 13 عاما، حتى من دون قرار دولي، ونفذتا مشروعهما الكولونيالي التدميري ضد العراق، فدمرته بآثاره وحضارته وتاريخه وأغرقته في بحر من الدماء وفتته اربا اربا.. طوائف واثنيات واعراق الخ.. وتركته نازفا حتى لا تقوم له قائمة على المدى المنظور.

وتدخلت في ليبيا عندما استدعت ذلك مصلحتها، تحت شعار حماية الشعب الليبي، فدمرتها وتركتها لحالها تنزف، ولا يلوح في الأفق اي بشائر للخروج من هذه الأزمة.. وكلما يزعمون وجود مخرج، يطل علينا تنظيم الدولة "داعش" ويخلط الاوراق مجددا. وها هو اليمن يدمر وشعبه يذبح، أما سوريا الوطن والشعب فحدث ولا حرج، فهي تغرق في بحر من الدماء.. والمصلحة طبعا تتطلب ترك الجرح السوري ينزف حتى القطرة ما قبل الاخيرة.

وتغيب الإرادة الغربية والامريكية، بل تتوقف على عتبات قضية فلسطين وشعبها، فلا تسمح لنفسها أو لأي طرف اخر للتدخل في حل هذه القضية.. فلا قرارات دولية تطبق، هذا إن سمحت أصلا باستصدار مثل هذه القرارات ولم تستخدم ضدها الفيتو.

فبعد حوالي 70 عاما على نكبة فلسطين و50 عاما على ضياع الضفة الغربية وقطاع غزة و25 عاما على إطلاق قطار المفاوضات تحت رعاية دولية في العاصمة الاسبانية مدريد في اكتوبر 1991، و23 عاما على تسليم منظمة التحرير الفلسطينية بمقولة الرئيس المصري الراحل انور السادات، إن جميع أوراق الحل بيد امريكا، فوضعت بيضها كله في سلة الدولة العظمى الوحيدة الولايات المتحدة، بتوقيع اتفاق اوسلو في البيت الابيض. بعد كل هذه السنين لا تجد هذه الدول غضاضة في الاعتراف بعجزها المزعوم، عن فرض حل، بينما تعمل على عرقلة أي محاولة من الجانب الفلسطيني لتصحيح خطئه وإعادة القضية الى حضنها الدولي، من أجل التوصل الى حل وفق قرارات الامم المتحدة 181و 194و242 و 338 وغيرها التي بقيت حبرا على ورق. وتغض واشنطن الطرف على كل ما ترتكبه الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة، من انتهاكات للقوانين الدولية، وتكتفي واشنطن وحلفاؤها فقط بالادانات اللفظية المتحفظة.

وتعمل واشنطن وفق استراتيجية تحول دون انفلات الاوضاع في الاراضي الفلسطينية الى حد العجز عن السيطرة عليها، فتمتص حالات الاحتقان أحيانا بتفريغ الشحنات عسكريا، والتدخل لوقف العمل العسكري في الوقت المناسب، كما حصل في حرب صيف 2014، على قطاع غزة، حيث سمحت لاسرائيل بتوجيه ضربة ليست قاضية ضد المقاومة الفلسطينية وحكم حركة حماس، لتتدخل في اللحظة المناسبة عبر الوساطة المصرية لوقف القتال.. أما الخسائر المادية فهذه الدول كفيلة بتعويضها من جيوب غيرها.

وتبقى الازمة وتتواصل.. وتتكرر الصورة مجددا.. حصل ذلك في عام 2006 في لبنان وقبلها في عام 1982 عندما تدخلت امريكا وتوصلت الى اتفاق بخروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، وفي غزة 2008 و 2012.

وكما عسكريا فالحال كذلك سياسيا، تسعى واشنطن دوما الى تجنب أي فراغ سياسي، فتارة تفرض على الأطراف مفاوضات عبثية تحت رعايتها كما حصل في عام 2013 وحتى أبريل2014 التي انتهت بفشل كما كان متوقعا ومليء الفراغ من بعدها بحرب 2014، وتارة اخرى تدفع عبر اطراف اخرى بمبادرات جديدة كما المبادرة الفرنسية التي جاءت على انقاض المشروع الفلسطيني، الذي يؤمل منه، إعادة القضية الى مجلس الامن لتسوية الصراع وانهاء الاحتلال، وفق جدول زمني محدد لا يتجاوز نوفمبر 2016. وأحبط المشروع الفلسطيني ولم يحصل حتى على الأصوات اللازمة لمناقشته في مجلس الأمن.

وعلى الفور تحركت فرنسا لملء الفراغ السياسي وهو الدور المنوط دوما بالدول الاوروبية، بمشروع يحمل اسمها، وهو نسخة ممسوخة عن المشروع الفلسطيني… وكما كان متوقعا أسقط الفلسطينيون مشروعهم لحساب المشروع الفرنسي وأعلنوا تأييدهم له.

ولو اخذنا بالتجارب السابقة فإن المبادرة الفرنسية، كما غيرها لن تسفر عن أي نتائج ولن تكون أكثر من ملهاة وتسويف ومماطلة تعطي إسرائيل مزيدا من الوقت حتى تنهي مهام أسرلة مناطق "ج" كما أسلفنا، وإنهاء موضوع القدس وتهويد المدينة وجعل إعادة تقسيمها من سابع المستحيلات.

ونتائج اجتماع باريس الوزاري التحضيري، شاهد على ذلك. وكما يقول المثل "المكتوب يقرأ من عنوانه". فبعد مماطلة، عقد الاجتماع بحضور 28 وزير خارجية بمن فيهم الوزير الامريكي جون كيري، وصدر عنه بيان لم يصل إلى مستوى التوقعات الفلسطينية الرسمية ومخيبا جدا للآمال، الى حد ان وزير الخارجية رياض المالكي، الذي لا يمكن ان يخرج ولو قيد انملة عن موقف الرئيس عباس وطاعته، انتقد نتائج الاجتماع واتهم من وصفهم باللاعبين الكبار بخفض مستوى توقعات البيان الختامي. ونسب اليه القول، في حديث مع صحيفة فلسطينية محلية "يبدو أننا ندفع ثمن حضور اللاعبين الكبار (في إشارة لا لبس فيها الى مشاركة كيري) الذين عملوا على تخفيض منسوب البيان وما تضمنه".

وجاء بيان وزراء الخارجية المشاركين، ليؤكد المؤكد وهو أن حل الدولتين وحده كفيل بإحلال السلام، شرط أن يتم التوصل إليه عبر التفاوض، وأعربوا عن قلقهم من الخطوات التي تتخذ في الميدان خاصة "أعمال العنف"، واستمرار البناء في المستوطنات، وحذروا من أن استمرار الحالة الراهنة من الجمود والافتقار إلى تحقيق تقدم نحو إقامة دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلتها “إسرائيل” منذ حرب عام 1967 أمر لا يمكن قبوله. وكما يقول المثل تمخض الجبل فولد فأرا.

وقبل حتى توجيه الدعوات للمشاركة في المؤتمر نكثت فرنسا بوعد الاعتراف رسميا بدولة فلسطين في حال فشلت جهودها، وهذا ما يغذي الشكوك بأن الحديث عن مبادرتها ليست سوى محاولة لتسكين "الأوجاع السياسية" الفلسطينية.

وختاما علمتنا التجارب والحياة السياسية ألا نثق في كل ما يصدر عن الدول الغربية لاسيما الدول الرئيسية الثلاث، بريطانيا في المقام الاول وفرنسا في المقام الثاني صاحبتا سايكس بيكو ومقسمتا تركة الخلافة العثمانية، أضف إلى ذلك أن الأولى هي صاحبة وعد بلفور والثانية صاحبة المفاعل النووي الثالث. اما الدولة الثالثة فهي وريث هاتين الدولتين في المنطقة التي رسخت وجود اسرائيل بدعمها بالمال والسلاح والموقف السياسي في المحافل الدولية.

وبناء على ذلك فإن على القيادة الفلسطينية ألا تعول كثيرا على مثل هذه المبادرات ووقف اللهاث وراء حقن تخدير وحلول وهمية ومبادرات لن ترى النور. فالقرار والنية والإرادة الدولية غائبة او تغيبها الولايات المتحدة.. وعلى هذه القيادة الاعتماد على مكامن قوة شعبها وتعزيز قدراته على المقاومة بترسيخ الوحدة الوطنية وتوفير الحياة الكريمة له وبناء مؤسساته على اسس ديمقراطية حديثة وعصرية وتوفير مقومات الصمود له على ارضه.

علي الصالح

٭ كاتب فلسطيني من أسرة "القدس العربي"