ليست تماضر بنت عمرو بن الشريد هي خنساء العرب والمسلمين الوحيدة، وإن كانت هي التي ذهبت بالسبق والاسم، وعرفت بين العرب بشعرها وحزنها الجاهلي القديم على أخيها صخر ثم معاوية، التي قالت فيه أنها لن تنساه حتى تفارق مهجتها ويشق رمسها، ثم احتسابها الإسلامي العظيم بعد ذلك وصبرها على فقد أولادها الأربعة، فقد عضت على جرحها، وصبرت على ألمها، وكفكفت دموعها، وما انحنت قامتها، ولا طأطأت رأسها، ولا خفت صوتها، ولا لانت في حديثها، ولا خضعت في كلامها، بل بقيت رغم الوجع والألم طوداً شامخاً على الأرض تقف، وفي جوفها تنغرس، وفوق سمائها تعلو، عالية الجبين، وضاءة الوجه، تحتسب أبناءها شهداء عند الله عز وجل وتفتخر، وتمني نفسها بلقائهم في جنان الخلد وتصطبر.
على درب تماضر العربية سارت الكثير من نساء فلسطين وأمهاتها، فَكُنَّ كالخنساء الأولى صبراً واحتساباً، وقوةً وثباتاً، وصلابةً وإيماناً، ومنهن من بزتها ونافستها تضحيةً وعطاءً، وسبقتها فداءً واستشهاداً، فكان حقاً علينا أن نحفظهن ونذكرهن، ونكتب عنهن وعن سيرتهن، ونبقي على أسمائهن بيننا في الحياة الدنيا، وندعو الله أن يخلدهن في جنانه، وأن يسكنهن الفردوس الأعلى في عليائه، وأن يجمعهن مع أولادهن وفلذات أكبادهن، الذين سبقوهن وكانوا ثمرة حياتهن ومهجة قلوبهن، ولكنهن آثرن ما عند الله على ما في الحياة الدنيا، وأحببن الوطن أكثر من الولد، وضحين بالدم حفاظاً على الأرض والقدس والأقصى والمسرى.
عرفنا أم نضال فرحات وسمعنا عنها الكثير، وهي التي هيأت أولادها الواحد تلو الآخر، وزينتهم وعطرتهم بالعطر والطيب ليلقوا الله وهم في أجمل وأطيب رائحة، وقد أعدت لكلٍ منهم سلاحه، وجهزت لهم بنادقهم وذخائرهم، وزنرتهم بالمتفجرات لينالوا من العدو ببنادقهم وقذائفهم إذا بَعُدَ عنهم، ويثخنون فيه إذا اقترب منهم، ثم ودعتهم وهي على يقين بلقائهم، والاجتماع معهم من جديد، ولعل أحداً لم ينقل لها خبر استشهادهم، إذ كانت معهم وتتابعهم، وتتصل بهم وتحرضهم، وتدفعهم وتشجعهم، الأمر الذي أعيا العدو وأربكه، وجعله يحتار في مواجهة أمةٍ فيها مثل هذه الأم.
وعلى إثرها مضت فاطمة الجزار المعروفة بأم رضوان الشيخ خليل، التي اقتفت آثارها وتعلمت منها وعلمتها، وعرفت معها معنى الصبر وفضل الاحتساب، وهي التي قدمت خمسة من أبنائها شهداءً، فما بكت لها عين ولا طرفت، ولا سكبت مآقيها الدمع ولا حزنت، وبقيت على أقدامها تقف، وبعقلها تعي، وبقلبها الذي ينبض إيماناً ويقيناً بالنصر الآت تؤمن، لم يتزعزع إيمانها، ولم يضطرب قلبها، ولم يتسرب الشك إلى نفسها أبداً، أن أبناءها شهداءٌ أحياءٌ عند ربهم يرزقون.
آن أوان رحيل الحاجة أم رضوان فرحلت، وتركت هذه الدنيا لمن أحبها، وآثرت عليها جنةً عرضها السموات والأرض، ومقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، بصحبة خير الخلق رسول الله صلالله عليه وسلم والأنبياء والصديقين والشهداء، وربما كان حنينها إلى أولادها أكبر، وشوقها إلى لقائهم أعظم، وقد نالت من ربها بصبرها على شهادتهم الدرجات العلى والمكانة العالية الرفيعة، فارتحلت إليهم وقد عادت من مصر جثماناً إلى بيتها في مخيم يبنا بمدينة رفح، وهي تودع عامها الخامس والسبعين، وهي أعظم ما تكون يقيناً وإن أوهى المرض جسدها، وأكثر ما تكون أملاً وإن ذهب الألم ببريق عينيها.
أم رضوان الشيخ خليل ليست ككل الأمهات، ولا تشبهها خنساءٌ أبداً، فهي لم تقدم خمساً من أولادها شهداءً فقط، بل تبعهم ثلاثة من أحفادها وقد كانوا لديها بمعزة الولد، وكانت ترى فيهم أولادها، وتتطلع إلى وصل النسب فيهم، وامتداد النسل بسببهم، وحفظ الاسم بهم، ولم تتوقف قافلة الشهداء عند الولد والحفيد وقد بلغوا ثمانية، بل واصلت قافلة الشهداء والمقاومة مسيرتها ليلحق بها شقيقها ثم صهرها لابنتها، وبقيت أمامهم كالطود الشامخ عزةً وكبرياءً، وودعتهم بشمم، وتلقت العزاء بهم بفخرٍ وإباء، والكل من حولها يقف مذهولاً أمامها، ومشدوهاً لصبرها، وعاجزاً عن وصف يقينها وبيان احتسابها، وهي التي احتضنت المقاومين وآوتهم، وفتحت بيتها للمقاومة فهدم، بعد أن جعلت منه حصناً لهم وملاذاً، فيه أمنوا وأكلوا، وناموا وشربوا، ومنه خرجوا ليثأروا وينتقموا.
جمعت أم الشهداء أم رضوان خليل في جنازتها شتات الفلسطينيين السياسي، وإن كانت قيادة حركة الجهاد الإسلامي تتقدمهم، وكوادرها تسبقهم، فقد حمل نعشها وتشرف بوضعه على كتفه، رجالٌ من حماس ومقاتلون من كتائب القسام، وسار في موكب جنازتها الطاهر رجالات فتح ومسؤولوها، ومعهم كوادر الجبهتين الشعبية والديمقراطية وأعضاء الكتائب واللجان العسكرية المقاتلة، تسبقهم سرايا القدس برجالها ومقاتليها، وراياتها وأعلامها، وسلاحها وشعاراتها، وآلافٌ غيرهم من أبناء الشعب الفلسطيني ممن يرون في أم خليل مثالاً للأم الفلسطينية الصابرة، والمرأة المقاومة، التي تمنح غيرها رفعةً وعزةً وكرامةً وشرفاً.
لَكُنَّ الله يا خنساوات فلسطين، يا من منكن نتعلم وبِكُنَّ نقتدي ونهتدي، فأنتن من قلن للعدو صبراً إننا قادمون، وأننا عليه سننتصر طال الزمن أو قصر، وسنطرده من أرضنا وسنعود جميعاً إلى بلادنا، وقد ساء وجهه ورَغِمَ أنفه، منكن أيتها الصابرات الماجدات الواثقات نتعلم، ومن يقينكن نستلهم النصر القادم، ونستبشر بالوعد الآتي.
يا مناراتٍ في حياتنا، وعلاماتٍ في تاريخنا، وصفحاتٍ ناصعةٍ في جهادنا، أنتن من علمننا أننا شعبٌ لا ينكسر، وأمةً لا تنهزم، وأجيالٌ لا تعرف اليأس ولا القنوط، وقد كنتن مثال الأم الفلسطينية التي تصنع الرجال وتتقدم الصفوف، وتحمل البندقية وتتكئ عليها، إذا ناء بها حملها وثقل عليها الألم لئلا تنكسر.
سلام الله عليك أم خليل رضوان، سلام الله عليك في الخالدين يا خنساء الأمة ويا سيدة نساء العصر، وهنيئاً لك ما وجدت عند ربك حقاً، وما أكرمك به أجراً، وما تفضل به عليك زيادة، وهنيئاً لك الصحبة الطيبة، والجمع الكريم مع الخنساء الأولى تماضر، ومع أم نضال فرحات، ومن قبل مع أولادك شرف وأشرف ومحمود ومحمد وأحمد، قادة في سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، وشقيقك وصهرك وكل الشهداء الكرام.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 26/6/2016
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]