إشكاليات اللغة العربية أشغلت العديد من الباحثين، وأنا لست منهم، ولكنها لغتي التي أتواصل عبرها مع القراء ومع الناس. لغة أفكر بها وأترجم ما فكر به إلى آراء ومواقف ، ويهمني ان أصيغ أفكاري بكلمات واضحة يسيرة الفهم وسهلة الوصول إلى المتلقي ، لا تفسر على وجهين ولا تحتاج إلى من يترجم مفرداتها .
إذن مشكلة اللغة ليست مجرد قضايا إعراب وقواعد وإملاء وليست موضوعاً معزولاً عن الحياة وعن الناس. بالتأكيد لا يمكن نفي علاقة اللغة بالهوية القومية، من البديهي ان اللغة من ابرز مركبات الهوية القومية، عندما لا يتقن الإنسان لغته، فهناك مسافة كبيرة تبعده عن هويته القومية، عن انتمائه الحضاري، عن ثقافته ، عن مجتمعه وعن واقعة السياسي . إذن للغة مسافة هامة جداً تتجاوز البحث المجرد بمفردات اللغة وتراكيبها إلى مساحة الهوية القومية . ليس هذا فقط ، إنما هناك ضرورة قصوى أيضا لجعل اللغة مفتاح يسهل لأبنائها التعرف على المواضيع المتعددة التي لا يمكن لإنسان عصر العولمة ان يعيش حياته دون علاقة متواصلة معها . الأدب والفنون هما مجال واحد.. ولكن هناك التكنولوجيا والعلوم بكافة أشكالها. قصور لغتنا العربية الفاضح ، هو غياب تطوير مفردات قابلة للحياة في العلوم والتكنولوجيا .
في هذه المداخلة ، لفت انتباهي موضوع العلاقة بين الهوية القومية واللغة، أو ما يمكن ان نسميه الجانب السياسي للغة ، ومن يحتاج إلى هذا البحث أكثر منا نحن المواطنين العرب في إسرائيل، في ضوء ما نواجهه من تمييز لغوي، ضعف في برامج تعلم اللغة العربية، ابتعاد الأجيال الجديدة عن التعامل الثقافي مع لغتهم الأم وانتشار ظاهرة الابتعاد عن القراءة خارج النصوص المقررة في برامج التعليم. هذا يبرز أيضا في أوساط الطلاب الجامعيين، يبرز في أوساط الأدباء (أو مدعي الأدب) وعلى الأغلب لا يقرؤون غير أنفسهم وكأن القراءة عقاب. لا بد ان أضيف إلى ذلك غرابة المصطلحات المستحدثة في اللغة العربية، عدم ملائمتها للاستعمال وتسرب الاصطلاحات العبرية أو اللاتينية للغتنا لسهولة فهمها وقربها من المناخ الثقافي، التكنولوجي والعلمي ، أيضا لسهولة مطابقة اللغة العبرية مثلاً(في حالة العرب في إسرائيل) لسوق العمل ، بينما تعجز لغتنا الجميلة أن تكون لغة صالحة وميسرة . لا أنفي التأثير السلبي في ظل عدم اعتراف المؤسسة الحاكمة بالعرب في إسرائيل كأقلية قومية، بالتالي بقاء الاعتراف باللغة العربية كلغة رسمية ثابتة في الدولة مسألة شكلية ، وتظل المسافة بين ان يكون هذا الاعتراف الرسمي حقيقة واقعة، وبين تحول اللغة العربية إلى لغة ثانية رسمية في إسرائيل مسافة شاسعة، القصد السياسي منها واضح، أن لا تتحول إسرائيل حقا إلى دولة ثنائية اللغة،حسب صيغة القانون (ووثيقة الاستقلال)،على الأقل في المدى المنظور.
لست ممن يتهمون العنصرية اليهودية بالمسئولية المطلقة. حقا الأقلية العربية واجهت سياسة تجهيل وقمع قومي، سياسة تفريغ جهاز التعليم من المعلمين الوطنيين.. سياسة تنشئة جيل بلا انتماء ثقافي وبلا انتماء قومي. واجهنا هذا التحدي وقلصنا امتداده .. ويبدو ان غياب جيل الطليعة الماركسي العلماني المتنور، الذي خاض اللجة على جميع الجبهات، وترك وراءه ورثاء ضحلين، بلا عمود فقري ثقافي أو سياسي، بدأ يعكس آثاره السلبية على واقعنا السياسي،الفكري والثقافي وليس بلا تخطيط للمؤسسة الصهيونية في إسرائيل. ما لم ينجحوا بتحقيقه بالقوة والقمع، نقدمه لهم بالتخاذل والتفكك. تحول نضالنا إلى شعارات وانتماءات قبلية وطائفية، حتى صار الفكر القومي نفسه فكرا ظلاميا متزمتا مغلقا ، والفكر الشيوعي لم يتخلف في تزمته وانغلاقه أيضا. توقف على أبواب أكتوبر 1917 رافضا التقدم. للحقيقة لا أرى ان الفكر الأصولي الظلامي يختلف إلا في اختلاف المعبود.
الملاحظ في إسرائيل ان اللغة الروسية ، لغة أكثر من مليون ونصف المليون مهاجر جديد وصلوا البلاد ، أخذت مكانها كلغة ثانية بفعل الترابط الثقافي للمهاجرين ومستوى ثقافتهم المميزة. في مجالات كثيرة تحتل اللغة الروسية مكان اللغة الأساسية - اللغة العبرية ، فهي ( الروسية ) لغة مستعملة في المؤسسات الرسمية والشعبية، حيث نتوجه ، نلتقي متحدثين بالروسية لتسهيل مقابلات الناطقين بها، لكننا لا نجد متحدثين باللغة العربية، العربي الذي لا يتقن اللغة العبرية يقع في إشكالية. نجد عدة صحف يومية وأسبوعية ناطقة بالروسية ، محطة تلفزة روسية، إذاعات بالروسية، دور نشر باللغة الروسية وهذا ما نفتقده بهذه الكثافة والنوعية في الوسط العربي، رغم أن تعداد العرب في إسرائيل بدون القدس العربية، هو مليون وسبعمائة ألف عربي. نحن إذن أمام إشكاليات "غير لغوية "، جانب منها سياسي يتعلق باستراتيجيات السياسة الإسرائيلية ، ومنها ما يتعلق بقدرتنا كأقلية قومية عربية على إيجاد الصيغة المناسبة ، سياسياً أيضا ... لمواجهة التحدي المفروض عبر تطوير لغتنا وتعميق دورها في حياتنا، هذا يقتضي سلسلة من الخطوات العملية التي من المفروض إقرارها على المستوى السياسي الوطني أولا، كجزء من التمسك بهويتنا الوطنية وثقافتنا.
هذا لا يعني العداء لآية لغة أخرى أو ثقافة أخرى. من الأهمية بمكان فهم العلاقة بين تطوير اللغة العربية وتعميق معرفة أبناء لغة الضاد بها، إتقانهم لها، افتخارهم بها، مع أهمية تطور الوعي العام للأقلية العربية بكل جوانبه، بدءا من الوعي السياسي، الوعي الثقافي، الوعي الاجتماعي والوعي العلمي.. الخ ، ورؤية ذلك كرافعة للتقدم على المستوى الشخصي والجماعي لمجتمعنا.
بالضبط هنا في هذا المجال نحن أمام إشكالية ، لا اعرف إذا كان مجمع اللغة العربية الذي أنشئ وبدأ نشاطه على المستوى العربي في إسرائيل قادر على التعامل مع هذه الأطروحات والقضايا الملحة التي تحمل طابعا سياسيا، إلى جانب الطابع اللغوي المجرد. ربما لا نستطيع الحديث عن "أمية" في مجتمعنا، إذا وجدت فهي بنسبة ضئيلة للغاية ولكن هل نستطيع حقاً ان نقول إننا مجتمع بلا أميين ؟! هل مفهوم الأمية يعني تحديداً من لا يعرف ان يقرأ ويكتب ؟! إلا يعتبر العاجز عن فهم المقروء أو المسموع أميا؟! إلا يعتبر كل من لا يعتمد على نفسه في إدارة شؤون حياته، من رسائل وتعبئة نماذج باللغة العربية أمياً ؟! هل حقاً لا توجد في مجتمعنا "أمية مقنعة" وبنسبة عالية جداً ؟! خبراء التنمية في العالم العربي يربطون بين محو الأمية والتنمية الاقتصادية، الاجتماعية، الإنسانية والوصول إلى مجتمع مدني ديمقراطي. يحددون مثلاً ان عدد الأميين في العالم العربي يصل إلى 100 مليون شخص (أي 45% من السكان – وبين النساء 80%). اللغة الرسمية المستعملة ( اللغة البسيطة – أو لغة الصحافة ) غريبة على الكثير من المواطنين، بالتالي المواطن خارج الفعل الاجتماعي والسياسي لمجتمعه أو دولته. إذا حسبنا الأمية المقنعة نصل إلى 70% - 80-% من المواطنين في العالم العربي أميين تماماً أو "أميين مقنعين " ؟!
لشرح أوفى لمفهوم الأمية المقنعة أضيف: قبل أكثر من سنة قامت باحثة عربية بتقديم أطروحة لإحدى الجامعات الأمريكية حول اللغة العربية ومكانتها في الدول العربية.. وخرجت بنتائج مثيرة ألخصها من ذاكرتي: من الصعب تحديد اللغة الفصحى الرسمية في الدول العربية، هل هي لغة القرآن؟! أم اللغة الفصحى الكلاسيكية ؟! أم اللغة الفصحى السهلة؟ هذا الواقع اللغوي يخلق ارتباكات لغوية ومشاكل في علاقة الدولة والمواطنين . صحيح ان الدول العربية سجلت في دساتيرها ان الإسلام هو دين الدولة. لكنها لم تحل إشكالية اللغة الرسمية للدولة في ظل تعدد "اللغات العربية " وليس فقط اللهجات، التي تشكل لغات قائمة بذاتها . اشترك مع الباحثة عدد من المساعدين الأمريكيين المتحدثين بالعربية الفصحى البسيطة – أو ما نعرفها اليوم بلغة الصحافة.. وهي اللغة الأكثر ممارسة في العالم العربي بل وتمارسها الإذاعات الرسمية، الصحافة ومؤسسات الدولة، لكونها اللغة الفصيحة السهلة المعاصرة والأكثر سرعة في التكيف مع الواقع ، والأكثر ملائمة للمناخ الاجتماعي المتوسط ... والأكثر فهماً في المجتمعات العربية . تبين لها ان مساعديها المتحدثين بالعربية لم يستطيعوا التحدث مع أوساط واسعة من المواطنين ، بعد فحص الموضوع تبين لها أمراً مذهلاً ، ان اللغة الفصحى البسيطة هي لغة غير مفهومة لنسبة كبيرة جداً من المواطنين ... السؤال: ماذا يربط أولئك المواطنين مع مجتمعهم وقضاياهم ومع الأحداث التي تدور في العالم العربي أو في العالم الواسع ؟!. استنتجت ، وهو المذهل .. ان أولئك المواطنون لا يساهمون بالقضايا السياسية والاجتماعية لدولتهم ولمجتمعهم . هم خارج اللعبة وعلى الأغلب يقعون فريسة "الملقنين " من المنظمات الأصولية والإرهابية ،أي الفكر الظلامي وهو فكر ينمو وينتشر داخل مساحة غير مشغولة من الدولة ومن المجتمع .
حول نفس الموضوع يقول المفكر التونسي الكبير العفيف الأخضر : ان استئصال الفكر الإرهابي للأصوليين لا يتم بتغيير مناهج التعليم فقط ، إنما بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع والإنسان .
في تعليق تلفزيوني لأحد المفكرين الإسلاميين المتنورين ، قال ان الدعوة الإسلامية بدأت بالجملة المشهورة "اقرأ باسم ربك " ويتساءل عن مجتمع أكثر من نصفه أميين وربعه الثاني يستصعب فهم المقروء .. بالتالي القراءة لها علاقة مشروطة بالتفكير أيضاً، أي من لا يقرأ لا يفكر، فهل أصبحت الدعوة الإسلامية "اسمع.. بدلا من اقرأ "؟! وفي السمع تلقين بلا تفكير .. ونحن نعرف من يستفيد من هذه الظاهرة .. كما قال!! من هنا الأهمية اللغوية والسياسية والاجتماعية لموضوع اللغة العربية وتطويرها وجعلها لغة قراءة مفهومة ميسرة لأصحابها فهماً وقراءة وتفكيراً وتعبيراً عن الشخصية الثقافية والقومية، وفي حالتنا السياسية أيضا، حالة الأقلية العربية في إسرائيل، حيث تعتبر اللغة متراسا لصيانة هويتنا القومية ، بدل ان نتغنى بشعارات عن الهوية بلا مضمون أو رؤية تقود إلى تطبيق عملي حضاري لمفهوم الهوية القومية.
نبيل عودة