المصالح هي من تملي الإتفاقيات والتنازلات،ومصالح الدول فوق مصالح الجماعات والأفراد،ونتنياهو قال حول توقيع الإتفاق التركي - الإسرائيلي "أنا لا أدير الدولة وفق تغريدات أو عناوين صحف،وإنما وفق مصالح الدولة".
الإتفاق الذي تجاوز وأنهي ما ترتب من قطعية او توتر وجفاء في العلاقات بين "اسرائيل" وتركيا على ضوء قضية اقتحام القوات الإسرائيلية للسفينة التركية "مرمرة" في العشرين من ايار 2010،املته جملة من الظروف والتطورات الإقليمية والدولية،وهو يحمل أبعاداً ومضامين اقتصادية وامنية،وإن كانت قضية خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي وكذلك الخذلان الأمريكي لتركيا في قضية دعمها لقوات سوريا الديمقراطية،والتي تشكل قوات الحماية الكردية عصبها الأساسي والخوف من قيام كيان كردي يشكل عازلاً بين تركيا والعالم العربي يمتد على طول الحدود السورية - العراقية وبعمق الأراضي التركية،هي من العوامل المعجلة بتوقيع هذا الإتفاق،ولذلك العديد من "المتطيرون" العرب والفلسطينيون كان لديهم اوهاماً بأن أردوغان والذي صوروه على أنه خليفة المسلمين او المهدي المنتظر الذي لن يفرط او يبيع حلفاؤه في قطاع غزة وغيرهم في المنطقة،وهذا التصور يبنى على المشاعر والعواطف و"الديماغوجيا" وليس على الوقائع والحقائق،فقبل المتغيرات الدولية والإقليمية وباوهام أردوغان أن النصر على سوريا قريب،رفض ان يعتذر لروسيا عن إسقاط المقاتلات التركية لطائرة سوخوي (24) الروسية على الحدود الروسية التركية،وقال بان من حق تركيا الدفاع عن مجالها الجوي،وبعد فرض العقوبات الإقتصادية والتجارية والسياحية والنفطية على تركيا من قبل روسيا،بقي أردوغان يكابر ويرفض الإعتذار،ولكن اضطر تحت وطأة التغيرات الدولية والإقليمية ان يغيير مواقفه ليس فقط من قضية الإعتذار لموسكو حول إسقاط الطائرة الروسية وتعويضها عن الطائرة والطيار ومحاكمة من اطلقوا النار على الطائرة من الأرض،بل سارع الى تطبيع علاقاته بإسرائيل والعودة بها الى وضعها الطبيعي ما قبل أزمة السفينة "مرمرة".
نتنياهو من روما الذي أعلن نهاية الخلاف مع تركيا،وصف الإتفاق بالإنجاز التاريخي،فهو يدرك تماماً الهزات السياسية والعواصف التي تهب على المنطقة والمحيط بإسرائيل المضطرب والمتقلب سياسياً،ولذلك عمل على تكثيف زيارته لضمان حالة إستقرار في محيطها،حيث زار موسكو واليونان وقبرص،وحرص على تدعيم علاقاته معهم،وبالنسبة لتركيا فهي تشكل الى جانب اسرائيل قوة إقليمية من الضروري التعاون معهما من اجل التصدي مع ما يسمى بالبلدان العربية " السنية" للمخاطر المحدقة بهم من الخطر الإيراني،وتشكل حلف روسي- ايراني- سوري الى جانب حزب الله الخطر الرئيسي على دولة الإحتلال،ومن شأن انتصار هذا الحلف ان يصوغ معادلات وتحالفات جديدة في المنطقة على حساب "اسرائيل" وتركيا.
وقبل التطرق لتفاصيل هذا الإتفاق،والذي كانت تركيا تضع قضية رفع الحصار عن قطاع غزة في صلبه،او انها لن توقع على إتفاق لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل دون رفع الحصار عن القطاع،فعلى الرغم من إشادة "حماس" بتركيا ودورها في دعم الشعب الفلسطيني والعمل من اجل رفع الحصار عن قطاع غزة،فالإتفاق لم يحمل او يتضمن للقطاع،أي رفع للحصار،بل هو تضمن جوانب وقضايا ذات بعد انساني واغاثي عن طريق الموانىء الإسرائيلية،لن يكون لها تأثيرات كبيرة في تغيير الأوضاع او تحسينها بشكل كبير في قطاع غزة،بالإضافة بالسماح لتركيا بإنشاء محطة تحلية للمياة و واخرى للطاقة والتوليد الكهربائي.
وهذا البند المتعلق بالقطاع كان يجب وبغض النظر عن موقفي من السلطة الفلسطينية،أن يكون من خلال السلطة او ما يسمى بحكومة الوفاق،فهو يحمل بعداً يسمح للقوى الإقليمية والعربية،بفرض رؤيتها ومشاريعها على الساحة الفلسطينية،ومن شأنه ان يعزز الإنقسام بدل إنهائه.
نعم هذا الإتفاق بالغ الأهمية الإستراتيجية لإسرائيل،فهو يحمي جنودها وضباطها وقادتها من الدعوي القائمة والمستقبلية،والتي من المفترض ان يصادق عليها البرلمان التركي،وكذلك هناك تعهد تركي بمنع الأعمال "الإرهابية" والعسكرية ضد "اسرائيل"،وبما يشمل جمع الأموال لهذه الغاية .
الإتفاق أيضاً يلزم تركيا بمساعدة "اسرائيل" بالدخول الى كافة المنظمات الدولية التي تركيا عضواً فيها،كما انه يفتح أبواباً ومجالات كبيرة للتعاون في شؤون الإقتصاد والطاقة،وخاصة الغاز،الذي سيجري تصديره من الحقول الإسرائيلية الى الأسواق التركية والأوروبية.
وبالنسبة لتركيا تعتذر اسرائيل لأهالي الضحايا وتدفع عبر صندوق خاص تعويضات لهم (21) مليون دولار.
ورغم كل ما يحمله الإتفاق من مضامين اقتصادية وامنية واهمية إستراتيجية لإسرائيل،وجدنا بأن هناك قوى مركزية ترفض هذه الإتفاقية،ويريدون من تركيا ان تاتي إليهم صاغرة،فحزب "البيت اليهودي" بقيادة بينت وحزب "اسرائيل بيتنا" بقيادة ليبرمان سيصوتان في المجلس الوزاري المصغر" الكابينت" ضد الإتفاق،لأنه هذا الإتفاق حسب وصفهم،بتقديم اسرائيل تعويضات لدولة داعمة " للإرهاب مثل تركيا،سيجعل الدولة تدفع ثمناً باهظاً في المستقبل،وكذلك ما ورد في الاتفاقية بما يتعلق بملف الجنديين المفقودين هدار جولدن شارون شاؤول لا يوجد فيه أي شيء ذا قيمة.
وفي الختام أقول بأنه آن الآوان لكي نفكر بعقولنا لا بعواطفنا بأنه يجري استخدامنا نحن الفلسطينيون كوقود وحطب لأجندات ومحاور ومصالح عربية وإقليمية ودولية،من شأنها ان تعزز إنقسامنا وتفكك مشروعنا الوطني وتقودنا نحو الكارثة،فهذا الإتفاق،هو اتفاق مصالح واتفاق استخدامي،قامت به تركيا من أجل استخدام القضية الفلسطينية لتقوية موقفها في العلاقة مع إسرائيل،خاصة أنها تريد أن تستثمر الغاز الإسرائيلي وأن تكون هي الوسيط لبيع الغاز إلى أوروبا.
وتركيا كذلك هي أكبر مستورد للسلاح الإسرائيلي،فهناك تدريبات عسكرية قائمة منذ مدة ولم تتوقف للحظة،فهل ندرك مخاطر هذا الإتفاق على قضيتنا ومشروعنا الوطني ووحدتنا،بعيداً عن المناكفات والصراع على سلطة منزوعة الدسم ..؟؟ والقضايا الإغاثية والإنسانية يجب ان لا تكون أبداً على حساب الحقوق الوطنية والقرار الفلسطيني المستقل.
بقلم/ راسم عبيدات