التطبيع وخوري.. تداعيات الانفصال البريطاني على قضيتنا

بقلم: فايز رشيد


بداية، ورغم أنني لم ألتق بالروائي والأديب إلياس خوري مباشرة، لكنني أثبّتُ إعجابي بروايته الأخيرة من خلال مقالة لي في "القدس العربي".
ما أؤكده للمبدع إلياس، أنني في مناقشاتي وحواراتي لا أميل إلى التخوين والاتهام، بالقدر الذي يفرضه عليّ التعبير عن وجهة نظري، من دون الإساءة لأحد، وبمثل هذه الروحية أناقشه بناء على ما جاء في مقالته في "القدس العربي" أول أمس. كمثل على ذلك ما كتبته عن مقابلة أمين معلوف في قناة فضائية صهيونية، من أنه بقامته الأدبية الكبيرة، لم يكن بحاجة إلى هذه المقابلة. كما أن الصديق إبراهيم نصرالله في مقالته الأخيرة في "القدس العربي" أشار إلى رواية أمين معلوف "سلالم الشرق"، التي اعتبرها " أشد فتكا بالقضية الفلسطينية" من مقابلته. لم أقرأ الرواية بعد.
إن أحد الأهداف الأساسية للكيان، هو الحصول على اعتراف جماهيري وشعبي عربي بإسرائيل، كدولة من دول المنطقة، والدخول في النسيج الاجتماعي للأمة العربية، والتطبيع معها بمختلف الأشكال.
على صعيد التطبيع الثقافي، حاولت إسرائيل جاهدة تصيّد روائيين وأدباء فلسطينيين وعربا، للوقوع في كمائنها. للأسف عديدون وقعوا في حبائلها. هم يستغلون كل طريقة قذرة لتصيد الفلسطينيين والعرب، خاصة الأسماء الكبيرة، وإليكم حادثة حصلت معي ومع زوجتي ليلى خالد: كان ذلك في منتصف تسعينيات القرن الماضي. رنّ الهاتف الأرضي فجأة، ردّت ليلى، سمعتها تجيب: أنا لا ولن أتحدث مع صهاينة وأقفلت الخط. أفهمتني أنه صحافي صهيوني يريد مقابلتها. رنّ الهاتف حوالي 30 مرّة متتالية، ولم نرد. لم أكن أستطيع سحب شريط الهاتف لكوني أنتظر مكالمة مهمة. في المرّة الأخيرة أحسست بالرنين وكأنه خنجر يخترق خاصرتي، تناولت الهاتف مرددا: أنها لا تريد الحديث معكم. سألني ماذا تقترح؟ رددت: انصرفوا إلى حيث جئتم، أو اقبلوا بحل الدولة الديمقراطية الواحدة، وأقفلت الخط. في اليوم التالي، فوجئت بهواتف من أصدقاء في المنطقة المحتلة عام 48 يخبرونني بأن الحادثة منشورة في الصحيفة بشكل يوحي بالتطبيع، تحت عنوان "فلان يحلم بوهم الدولة الديمقراطية" وباستهزاء شديد.
الحادثة حفّزتني لكتابة بحث عن استحالة حل الدولة الواحدة أو الثنائية القومية مع الكيان. باختصار شديد إن قبلت إسرائيل بهذا الحل، تكون قد تخّلت عن صهيونيتها، وهذا مستحيل.
على قاعدة احترام آراء الأديب خوري صاحب "باب الشمس"، فإن ما يقوله عن الاعتقاد بأن مقابلة أهلنا من منطقة 48 وأدباء تقدميين إسرائيليين ستعتبر تطبيعا، وأوردَ كمثل اسم ايلان بابيه،هذا العملاق، الذي كتب "التطهير العرقي للفلسطينيين"، أبى العيش في الكيان الصهيوني، تماما كما فيليتسيا لانغر، التي قابلتها صحافيا عام 1988 وكنت أول من نقل خبر اعتزامها مغادرة الكيان لصحيفة "الهدف". أما أهلنا في منطقة 48 فهم جزء منا، نقابلهم ونستقبلهم في بيوتنا. وبالفعل إن آمن أحد بأن مقابلة فلسطينيينا من منطقة 48 يعتبر تطبيعا، فهذا ليس بفلسطيني، وإنما مثقف أو منظّر يعيش في غيبوبته النظرية، بعيدا عن الواقع، في إطار وردي من الجمل الثورية، التي عانينا منها كثيرا في بداية انطلاقة الثورة الفلسطينية. أخيرا، كما كتبتُ عن أمين معلوف، أقول لم تكن أنت أيها الفاضل إلياس بحاجة إلى مشاركة 4 من الكتّاب الإسرائيليين، جرت في المتحف البريطاني في لندن عام 2006، لاستعراض صورة اليــــهودي في الأدب العربي والعكس أيضـــــا، وسط استغراب جمـــهرة كبيــــرة من الطلبة العرب الحضور، الذين استغربوا وجودك بينهم، وسألوا إدارة المحاضرة، التي كانت قد أعلنت أسماء الأدباء الإسرائيليين وأشارت بكلمة عامة و"أدباء فلسطينيين".
الحقيقة أنهم لم يجدوا أديبا فلسطينيا واحدا قبل المشاركة في هذا التطبيع. أيضا بمقابلة مع هارتس أو بدونها أنت قامة أدبية، ورسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه دعا إلى "الدرء بالشبهات".
من الملاحظ أن حركة مقاطعة الكيان في تنام مستمر وبشكل متسارع، كحصيلة لنشاطات جمعيات ومنظمات أهلية فلسطينية وعربية ودولية. نعم المقاطعة في طريقها للتحول إلى ظاهرة، وقد بدأت تقلق إسرائيل. لقد خسرت إسرائيل العام المنصرم 2015 حوالي 30٪ من تجارتها مع الدول الأوروبية وغيرها.
نعم بدأت تتكاثر المؤسسات الأكاديمية والإقليمية والشركات والمؤسسات الأوروبية التي تعلن مقاطعتها لإسرائيل في دول عديدة. نعم علينا الاستفادة من هذه الظاهرة، فالحكم العنصري في جنوب أفريقيا حوصر وقوطع من غالبية دول العالم، الأمر الذي ساهم وبفعالية كبيرة في الضغوط عليه للجنوح نحو حل سياسي مع الشعب الجنوب أفريقي. فكيف بنا كعرب الاستجابة لرفع المقاطعة عن الكيان؟
على صعيد آخر، وسط الجدال الكبير الذي احتلته وتحتله نتائج الاستفتاء البريطاني، فإن كاتب هذه السطور مع تفسخ بريطانيا، كما دول الاتحاد الأوروبي. فبريطانيا كانت وستظل السبب الرئيس في مأساة شعبنا الفلسطيني على مدى ما ينوف عن قرن زمني. كانت العامل الأول بوعدها المشؤوم لليهود بإنشاء وطنهم "القومي" على أرضنا، ساعدت هجراتهم إلى فلسطين. ساعدتهم في إنشاء كيانهم. كانت ولا تزال مانعا قويا في الاتحاد الأوروبي لأخذ أي قرار إيجابي بتأييد حقوقنا الوطنية. بالفعل سأكون سعيدا بانسلاخ اسكتلندا وإيرلندا الشمالية عن المملكة المتحدة.
بريطانيا، التي تدّعي العراقة في كل المجالات، ونزاهة القضاء، غيّرت قوانينها من أجل عدم توقيف المجرمين الصهاينة المرفوعة عليهم قضايا جنائية في محاكمها، بتهمة اقتراف جرائم حرب بحق شعبنا. في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا تسهل لمنظمات الإرهاب الصهيونية اقتراف مجازرها ضد أهلنا، كانت تعدم كل ثائر فلسطيني يحمل السلاح دفاعا عن شعبنا وأرضنا. تذكروا شهداء الثلاثاء الحمراء، عطا الزير، محمد جمحوم وفؤاد حجازي، وغيرهم المئات. بريطانيا انتُدبت (استعمرت) فلسطين عقودا طويلة، انسحبت قبيل إنشاء الكيان مباشرة بعد أن ساعدت منظمات الإرهاب الصهيونية: شتيرن، ليحي، الهاجناة والآتسل في إنشاء جيشهم وكيانهم وتركت لهم كل طائراتها في فلسطين، ليبدأوا اعتداءاتهم على العرب.
نرى الآن أن السحر انقلب على الساحر، مع الفارق بين المشهد الشرق أوسطي وبين المشهد الاوروبي، الا أن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، يشير الى بداية "ربيع أوروبي" وولادة مشروع تفكيك الاتحاد وخلق اوروبا الجديدة، وهو بمثابة الزلزال الذي سيكون له تداعيات كبيرة وخطيرة. الجنرال ديغول اكتشف حقيقة بريطانيا، وكان ضد دخولها للسوق المشتركة المؤسسة للوحدة الاوروبية، وحين وافق شركاؤه في المانيا وايطاليا وهولندا على دخولها، قام بالطلب من قيادة الحلف الاطلسي اخراج قيادتها من "شايو" في باريس، وجمد عضويته في الحلف الاطلسي كرد على استنفار امريكا لصواريخها النووية في اوروبا، اثر ازمة الصواريخ الروسية في كوبا. هذه حوادث معروفة لجيلنا.
انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي يمثل اتجاهاً عالمياً جديدا، أي نكسة للعولمة ولاعتبار العالم في الطريق كي يصبح قرية واحدة، والسماح بعبور الحدود من قبل الأشخاص والسلع والأموال والمعلومات، فالعالم يعود الآن إلى الكيانات القومية. أما بالنسبة الى موقف الإدارة الامريكية والكيان الصهيوني (اقرأوا صحفهما) فيمكن وصفه بالموقف الحزين المرتبك، لأن واشنطن وتل أبيب خسرتا نصيرا كبيرا داخل الاتحاد الاوروبي، وهما الان قلقتان من سيطرة المانيا على الاتحاد الاوروبي. وبالنسبة لموقف روسيا، نستطيع القول إن موسكو لن تستطيع اخفاء فرحتها، على امل ان التطورات الجديدة، التي قد تضعف الموقف الاوروبي بالنسبة للاستمرار في فرض العقوبات على روسيا، أو على الاقل تفتح ثغرة في جدار الحصار الاقتصادي على الاتحاد الروسي. الكيانات القومية مزقت الاتحاد السوفييتي ، وفي طريقها الآن لتمزيق الاتحاد الأوروبي.
نتائج صناديق الاقتراع في بريطانيا لا يمكن لها إلا أن تخّلف تبعات دستورية وقانونية جمة، لم يكن أكثر المتشائمين يتوقعها، فقد تسارعت وتيرة الأحداث والتطورات السياسية والدستورية في بريطانيا العظمى بعد ظهور نتيجة الاستفتاء، حيث أعلن رئيس الوزراء ديفيد كاميرون استقالته من رئاسة حزب المحافظين. ولسوف يدخل التاريخ باعتباره أسوأ رئيس وزراء عرفته بريطانيا في تاريخها، فقد فشل في صيانة وحدة الدولة، وفشل في قيادة شعبه، وحق له أن يستقيل ويذهب إلى زوايا النسيان لأنه يتحمل الجانب الأكبر من مسؤولية ما حدث.
بالنسبة لتداعيات الانفصال البريطاني على قضيتنا، نعتقد أنه سيكون ذا مردود إيجابي، إن بالنسبة لتحرير الدول الأوروبية من القيود البريطانية على القرارات السياسية المؤيدة للقضية الفلسطينية، والمزيد من كشف الجرائم الصهيونية، أو تقييد مقاطعة الكيان الصهيوني، بعد تنامي دور الاتحاد الأوروبي في مقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية. الاتحاد الأوروبي له دور متقدم تجاه القضية الفلسطينية، والمأمول قيامه بدور أكبر. صحيح أن هناك أصواتا داخل الاتحاد الاوروبي مثل التشيك، وبولندا وهنغاريا وغيرها تتبنى المواقف الإسرائيلية، إلّا أنّ هناك تغيّرًا ملحوظًا في سياسة الاتحاد الأوروبيّ.

د. فايز رشيد

٭ كاتب فلسطيني