بريطانيا تحيي مئوية وعد بلفور!

بقلم: علي الصالح

لا ندم ولا إحساس بالمسؤولية.. ولا محاسبة للنفس ولا تعويض ولا حتى اعتذار شفوي ولا احترام ولا تقدير لمشاعر الضحايا.. بل احتفاء وإحياء… نعم احتفال وإحياء هذا هو موقف بريطانيا الرسمي.. لم يتبدل ولم يتغير ونحن نقترب من الذكرى المئوية لوعد بلفور الاستعماري الظالم المجحف وغير الاخلاقي واللاإنساني.
هذا الوعد الذي لم يتجاوز بضعة سطور كتبها وزير خارجية بريطانيا (العظمى) في الثاني من نوفمبر 1917، قضى فيها على أحلام شعب برمته في التحرر والاستقلال والعيش بسلام.. هذا الوعد الذي لا يزال الشعب الفلسطيني يعيش تبعاته ويدفع ثمنه من دم ابنائه، وعد ممن لا يملك الى من لا يستحق.
وللتذكير فقط بهذا الوعد فهذا هو نصه: "عزيزي اللورد روتشيلد، يسرني جداً أن أنقل اليكم بالنيابة عن حكومة جلالته، الإعلان التالي الذي ينطوي على العطف على الأماني اليهودية الصهيونية، وعرض على مجلس الوزارء "الكابنيت" وأقره:
"إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل أقصى جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر". وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح. المخلص آرثر جيمس بلفور".. انتهى الوعد.
وبعد مئة عام على هذا الوعد لا تزال المملكة المتحدة بحكوماتها المتعاقبة تختار الوقوف الى جانب الباطل، والإمعان في الظلم والوقوف ضد الحق وضد الشعب الفلسطيني.
وبعد مئة عام، لم تحاول الحكومات البريطانية ان تعمل خلالها على إصلاح الغبن التاريخي الذي أوقعته على الشعب الفلسطيني، رغم ان ما حصل يتنافى مع نص الاتفاق، فضربت الحركة الصهيونية عرض الحائط وانتقصت من حقوق المواطنين الدينية والمدنية وامعنت في القتل والتدمير والتهجير.
مئة عام مرت لم تتخذ الحكومات البريطانية المتعاقبة ما يوحي بالاعتذار للشعب الفلسطيني عن أبشع جريمة ومؤامرة ضد الجنس البشري ترتكب في القرن العشرين. جريمة التمهيد لاقتلاع شعب من ارضه.. جريمة وضْع حجر الاساس لاقامة وطن قومي لليهود في فلسطين على حساب شعبها، حتى قبل ان تقع فلسطين تحت الانتداب البريطاني بموجب اتفاق سايكس بيكو لعام 1916 الذي قسمت فيه بريطانيا ممثلة بالدبلوماسي سير مارك سايكس، وفرنسا ممثلة بالدبلوماسي فرانسوا جورج بيكو في ما بينهما الغنائم من الامبراطوية العثمانية بعد إلحاق الهزيمة بها في الحرب العالمية الاولى.. وعقد اتفاق سايكس بيكو بمصادقة من الامبراطورية الروسية وجاءت الثورة البلشيفية لتفضح هذا المخطط، ولولاها لبقيت المؤامرة في طي الكتمان.
مئة عام مرت لم تعترف فيها بريطانيا ولو مرة بمسؤوليتها عن نكبة الشعب الفلسطيني وتشريد مئات الالاف من ابنائه في مخيمات لا تصلح للعيش الآدمي.. لتفوق اعداد اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون خارج وطنهم عن الملايين الست.
مئة عام مرت ولم تشعر بريطانيا يوما بالخجل فتحاول على الاقل ان تسدل الستار على تاريخها الاستعماري الاسود وتوقف ظلمها للشعوب عبر محاولة إصلاح ما يمكن اصلاحه.
مئة عام مرت على وعد بلفور و68 عاما على قيام الكيان الصهيوني بناء على هذا الوعد وبدعم لوجستي ومعنوي وعسكري بريطاني، ولا تزال حكوماتها تتنكر عمليا وليس لفظيا، لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره والاعتراف والعيش بحرية وكرامة في إطار دولة مستقلة حديثة وعصرية وديمقراطية.
مئة عام وبريطانيا بقرارها حــرمت الشعب الفلسطيني من تطوير طاقاته العلمية والفكرية والادبية على أرضه.
وبعد مئة لم تكتف بريطانيا بكل ما تقدم انما تريد ان تعيش على ذكريات الامبراطورية العجوز على حساب الشعب الفلسطيني بعد ان فقدت بريقها ونفوذها..
وبعد مئة عام وبدلا من أن تحاول بريطانيا التكفير عن ذنوبها وتعويض الشعب الفلسطيني عن كل ما الحقته به من ضيم وقتل وتشريد ومعاناة، تمعن في تنصلها من مسؤولياتها التاريخية تجاهه وتنكرها لحقوقه الوطنية والانسانية وحرمانه من حقه المشروع في الدفاع عن نفسه، حتى إن كان بالطرق السلمية اللاعنفية.. ولا تحاول الحكومة الحالية في لندن إخفاء الجرائم التي ارتكبتها بريطانيا الاستعمارية الكولونيالية ومحو آثارها، بل تخطط للاحتفال بالذكرى المئوية لهذا الوعد المشؤوم…وبالمناسبة عندما تسأل مسؤولا بريطانيا عن قرار الاحتفال بوعد بلفور، غير الاخلاقي وغير الانساني، وإمعانا بالخبث يرفض، الاعتراف بانهم يحتفلون بالوعد المشؤوم ويصرون بوقاحة منقطعة النظير على القول إنه احياء وليس احتفاء. وكأن الظلم الذي أوقعته على الشعب الفلسطيني والذنوب والجرائم التي ارتكبتها بحقه خلال المئة عام الماضية، لا تكفي، وكأن تاريخ بريطانيا الاسود خال من الجرائم والظلم الا من وعد بلفور. وليس هناك سوى تفسير واحد لهذا القرار وهو ان بريطانيا شريكة حتى يومنا هذا في معاناة الشعب الفلسطيني وتصر "وعلى عينك يا تاجر" على عدائها له.. "واللي مش عاجبه يشرب ماء المانش".
كان الفلسطينيون في مثل هذه الذكرى المشؤومة يتوقعون من الحكومة البريطانية، خطأ ان تقدم اعتذارها لهم والعمل على تعويضهم على الأقل معنويا بالاعتراف بالجريمة البشعة، وسياسيا بدعمهم في تحقيق حلم الدولة والاعتراف بها على جزء زهيد من وطنهم.
الاحتفال بمئوية وعد بلفور المشؤوم كمن يتقصد وضع مزيد من الملح على الجرح الفلسطيني الذي لم يندمل ولا يزال ينزف.
نعرف مدى تغلغل الصهيونية والنفوذ اليهودي في بريطانيا ولكن حتى هؤلاء لا يتجرأون على التنكر لحق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة، في عصر الاختراقات الاعلامية التي حققتها القضية الفلسطينية والتأييد الشعبي غير المسبوق الذي تحظى به على الصعيد البريطاني، بفضل نشاط التجمعات الفلسطينية والدعم غير المسبوق لأنصار فلسطين، وفي مقدمتهم لجان التضامن وحركة مقاطعة اسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها "BDS".. طبعا اولا وقبل كل شيء بفضل صمود شعبها على ارضه واصراره على النضال والمقاومة، رغم المجازر والجرائم والحروب التي ترتكبها ضده دولة الاحتلال وقطعان مستوطنيها.
والشيء بالشيء يذكر فقد حققت حركة "BDS" في بريطانيا نجاحا كبيرا ضد الحكومة البريطانية، التي اتخذت قرارا بحرمان المجالس البلدية والمؤسسات الحكومة من التمويل في حال تبنت سياسة مقاطعة إسرائيل. وحسب بيان صادر عن الحركة فإن محكمة بريطانية أصدرت قرارا ضد محاولات الحكومة البريطانية منع المقاطعة، واعتبرتها أمرا غير أخلاقي ومرفوضا. وقالت الحركة إن محكمة بريطانية اصدرت حكما لصالح ثلاثة مجالس بلدية وهي لستر وسوانزي وغويند، تقاطع منتجات المستوطنات. واعتبرت أن هذا القرار يمثل انتصارا للحركة، مؤكدة أن القضاء البريطاني قال كلمته في رفض إجراءات الحكومة التي كانت تهدد باتخاذ إجراءات ضد أي مجلس بلدي يقاطع إسرائيل.
واعتبرت المديرة المؤقتة لحملة التضامن الفلسطيني أن قرار محكمة العدل العليا كان انتصارا مهما لحملة المقاطعة. وأضافت "إننا نحيي المجالس الثلاثة التي دافعت عن نفسها في المحكمة العليا البريطانية وعن الحق الديمقراطي في حرية التعبير"، معربة عن تطلع الحملة الدولية "للتضامن مع الشعب الفلسطيني من أجل العمل معها والمجالس الأخرى التي تتبنى سياسات لدعم حقوق الإنسان الفلسطيني".
الاعتقاد هو ان الحكومة البريطانية رغم الاحتجاجات الفلسطينية اللفظية ماضية في برنامجها لاحياء مئوية وعد بلفور المشؤوم رغم انها لم تحدد تاريخا لذلك.. فما نحن فاعلون على هذا الفعل العدائي.
أحد الاسباب الرئيسية لتمادي الحكومة البريطانية، في غيها، هو بالتأكيد غياب المُطالِب الفلسطيني والعربي بحقوقه من "الامبراطورية البريطانية"، كما فعل اليهود ومن ورائهم اسرائيل، مع المانيا بعد بشائع النازية.. فحتى اللحظة ورغم مرور أكثر من سبعين عاما على هزيمة النازية لا تزال عملية الابتزاز مستمرة ولا يزال الالمان جيلا بعد جيل يدفعون ثمن جرائم هتلر. والتعويض الذي تتلقاه اسرائيل لا ينحصر في التعويض المالي فحسب بل العسكري والسياسي والمعنوي.
وما يشجع الحكومات البريطانية المتعاقبة على عدم التفكير مرتين في إلحاق مزيد من الظلم بالفلسطينيين، غياب العامل الرادع إضافة الى التقاعس الفلسطيني وغياب المطالبات والدعوات والتحركات العملية، سواء على الصعيد الرسمي أو الشعبي لوضع الحكومات البريطانية أمام مسؤولياتها التاريخية والأخلاقية والسياسية وتحميلها مسؤولية جرائمها، بمقاضاتها إن استدعى الأمر امام محكمة الجنايات الدولية، وحتى أمام محاكمها، على كل ما ألم بالشعب الفلسطيني جراء وعد بلفور.. فلم تعد المظاهرات والاحتجاجات تؤتى أكلها.. ولنجعل من هذه الفرصة نقطة انطلاق لكي تجبر الحكومة البريطانية على تحمل مسؤوليتها ودفع ثمن جرائمها التاريخية.

علي الصالح

٭ كاتب فلسطيني من أسرة "القدس العربي"