تتقن أمريكا جيدا حكاية العصا والجزرة فهي تستخدم ذلك مع حلفائها ومع أعدائها وحسب الحالة المعاشة كما أنها تتقن جيدا قراءة الظروف التي تعيشها كل بلد على حدة ولعل أدائها في ليبيا يقدم نموذجا واضحا لذلك فليبيا بلد بتركيب معقد فهو مجتمع قبلي متماسك نمت به رؤى وآراء ثورية غير عادية خلال أربعة عقود من حكم القذافي وتنامى هناك بشكل واضح عداء متأصل للولايات المتحدة الأمريكية ولذا فهي تقود العملية هناك بحذر شديد للأسباب التالية:
1- التركيبة المعقدة للمجتمع الليبي وتماسك القبيلة وحجم تأثيرها الذي لم يغيب رغم محاولات التحديث القذافية والصراع القبلي هناك عميق ومعقد رغم محاولة البعض تبسيطه وعن ذلك يقول صالح السنوسي أستاذ القانون الدولي في جامعة بنغازي " ينبغي التمييز بين القبلية في شرق ليبيا وغربها، ففي الغرب بدأ الصراع القبلي المسلح بعد السابع عشر من فبراير بسبب انخراط بعض القبائل في الانتفاضة ومحاربتها لنظام القذافي، بينما بقيت بعض القبائل على علاقتها مع النظام، الأمر الذي أدى إلى صراع مسلح دام بين هذه الأطراف القبلية، وبالتالي فإن تجلى القبلية في الغرب الليبي بداية كان بسبب الصراع السياسي حول نظام القذافي وليس بسبب مطالب جهوية، ثم تطور ليحمل مطالب في مواجهة القبائل بعضها البعض بسبب ثارات قديمة، ولكنها لم تكن مطالب على المستوى الجهوى أو مستوى الأقاليم.
أما في الشرق الليبي فلم يكن هناك صراع بين القبائل بسبب النظام، لأن النظام ومؤسساته سقطا خلال أيام معدودات، ولم يكن هناك وقت كاف لكي يؤجج أنصار القذافي الصراع القبلي لمصلحة النظام، ولهذا فإن عدم وجود صراع بين القبائل في الشرق الليبي شجع أقليات جهوية وقبلية معظمها كانت له مكانة في نظام القذافي، على أن تطرح وبحذر شديد مطالب جهوية باسم الفيدرالية أثناء الحرب على نظلم القذافي، فكان طرح الموضوع وتوقيته بمثابة صدمة صاعقة للرأي العام الوطني، لأن القذافي كان لا يزال يسيطر على أكثر من نصف ليبيا ولم يسقط بعد.
2- وجود 10% من سكان ليبيا من الامازيغ والذين يعتبرون أنفسهم أصحاب البلاد الأصليين فجذورهم في ليبيا تعود إلى 4000 سنة بينما جذور العرب تعود إلى 1400 سنة على ابعد تقدير وتسعى أمريكا وحلفائها إلى تفعيل هذا العداء النائم في ليبيا لمصلحتها وبأشكال مختلفة ويقول موقع عالم الامازيغ بتاريخ 26/9/2011 بحديثه عن المؤتمر الامازيغي الأول " يشكل الامازيغ الناطقين باللغة الامازيغية حاليا حوالي عشرة بالمائة من سكان ليبيا (حوالي ستة ملايين نسمة)، ويسكن معظمهم في منطقة جبل نفوسة (شمال غرب ليبيا) وزوارة (حوالي 120 كلم غرب طرابلس) وغدامس (حوالي 600 كلم جنوب غرب طرابلس). ويعود تواجد الامازيغ في ليبيا إلى حوالي عشرة آلاف سنة. ويفخر الامازيغ وهي كلمة تعني الأحرار الشرفاء، بأبطالهم مثل شيشنق الذي حكمت أسرته مساحات واسعة من شمال إفريقيا وبلاد الشام لحوالي ثلاثة قرون، وكذلك طارق ابن زياد وهنيبعل, وتعرض الامازيغ خلال عهد معمر القذافي لمضايقات كثيرة وتهميش واسع ومنعوا من تسمية أبنائهم بأسماء امازيغية, ورفض القذافي الاعتراف باللغة الامازيغية كلغة رسمية ثانية إلى جانب العربية، معتبرا أن الامازيغية انقرضت وانتهت " ويتابع الموقع قوله أن منظمي المؤتمر فوجئوا " بعدد المشاركين الذي اكتظت بهم أروقة الفندق وراحوا يتبادلون التهاني بانتصار الثورة ويتحدثون باللغة الامازيغية من دون خوف من رقابة الأجهزة الأمنية للقذافي. وقال مادغيس بوزخار (29 عاما) وهو عضو مؤسس في جمعية تيرا للغة والثقافة الامازيغية إن "المجال الثقافي كان ممنوعا علينا ونأمل أن يتغير هذا الأمر في الفترة اللاحقة". وأضاف بوزخار المتحدر من يفرن في جبل نفوسة إن "الطاقات الامازيغية المدفونة بدأت تبرز. ونحن لا نطالب بأي شيء بل ننادي بحقوقنا إذ انه من الضروري أن نساهم في الحياة السياسية أيضا". من جهته، طالب شيشنق أبو دية "بدسترة اللغة الامازيغية". وقال "إذا تم تعريف الهوية الليبية فيجب الإشارة إلى أن الامازيغية مكون رئيسي في هذه الهوية". وتابع ردا على سؤال حول الاسم الرسمي لليبيا "لم يكن محل جدل، لكن ربما تكون حذف كلمة ? العربية - احد المطالب"، في إشارة إلى تعريف ليبيا بالجماهيرية العربية الليبية العظمى " وبالتالي فان المسالة الامازيغية لم تعد غائبة ولا هامشية وهي أداة حية بيد أمريكا وحلفائها عند الضرورة.
3- استمرار الانقسام الجهوي للأقاليم الثلاث هناك التي كانت قبل الملكية لزمن طويل ويكفي نقل ما قالته صحيفة لاريبوبليكا الايطالية لنعرف حقيقة ما يحاك لليبيا على يد الامبرياليين بكل أطيافهم حيث قالت تلك الصحيفة " من المنتظر إذا فشلت كل المحاولات السياسية، أو العسكرية بقيادة اللواء خليفة حفتر في تحقيق الهدف المنشود سريعاً، أن تتدخل القوات الغربية في محيط طرابلس بقيادة إيطالية ودعم من العناصر القادرة على القتال من ميليشيا مصراطة، في حين تتولى وحدات خاصة إيطالية، تأمين البنى التحتية الحيوية، لتأمين شروط الحد الأدنى من الانتعاش الاقتصادي، والتي تشمل الموانئ والمطارات وأنابيب وخطوط نقل النفط.
أما في محيط المدن القريبة وخاصة سرت من المنتظر أن ترفع الولايات المتحدة من نسق ضرباتها الجوية ضد داعش، بما في ذلك في صبراتة القريبة من طرابلس ومن الحدود التونسية لمنع تدفق المسلحين على البلد المجاور والهش.
وفي المقابل من المنتظر أن تتولى بريطانيا، مهمة حماية وتأمين المنطقة الشرقية وعاصمتها برقة، بطريقة مماثلة، رغم أنها لم تتحدد بعد كما في إيطاليا التي من المنتظر أن تساهم بما لا يقل عن 5 آلاف عسكري وفي جنوب البلاد، وعاصمته مدينة فزان، من المنتظر أن تتولى فرنسا التي بدأت عملياً في التدخل السري الميداني، مهمة تأمين المنطقة ومنع الحركات الإرهابية من التقدم، انطلاقاً من مالي أو النيجر المحاذية لفزان، أو داعش من التوغل نحو دول الساحل والصحراء في أفريقيا، وذلك بالاعتماد على الحضور العسكري الفرنسي الهام في كل من مالي والنيجر وتشاد، وجميعها مجاورة للجنوب الليبي، وهي التي تملك فيها قواعد كبرى سرية وعلنية في إطار اتفاقاتها مع هذه الدول منذ استقلالها في الستينات، أو في إطار عملية سانغاريس الدائرة حالياً ضد القاعدة في المغرب الإسلامي، وأنصار الدين، وتنظيم "كتبية المرابطون".
4- وجود مصالح لعديد الدول المنافسة هناك ورغبة أمريكا بعدم عرقلة حلفائها كايطاليا وفرنسا وبريطانيا لأسباب تاريخية وسياسية واقتصادية فروسيا تخشى من خسارة صفقات الأسلحة الكبيرة التي كانت تعقدها مع القذافي وتسعى للحصول أيضا على حصتها من النفط والغاز الليبيين وليبيا التي سبق لها أن وقعت على اتفاقية ضخمة ومهمة مع ليبيا عام 2008 سارعت لوضع قواتها وقواعدها تحت تصرف الهجوم على ليبيا وقد يكون سبب ذلك هو الشروط المجحفة التي وضعها القذافي على ايطاليا في اتفاقياته ووجدت ايطاليا الفرصة للانقضاض عليها لتحسين شروطها كم أن المجموعة الحكومية الإيطالية (إي إن آي)، أكبر مستثمر ومستخرج أجنبي للنفط في ليبيا، والتي كانت، قبل بدء الثورة في ليبيا، تستخرج ربع كمية النفط الليبية البالغة 1,6 مليون برميل يوميا. وكانت المجموعة الإيطالية قد عقدت عام 2007 اتفاقية مع الحكومة الليبية بقيمة 29 مليار دولار.
5- وجود مصالح روسية صينية في ليبيا وحرص أمريكا على عدم إثارة هذين البلدين حد المواجهة وإنما ترك الأبواب مواربة لهم لتحقيق بعض مصالحهم بما لا يؤذي مصالحها هناك وحسب وكالة ا ف ب فان نائب وزير الخارجية الصيني شاي جون ابلغ الرجل الثاني في المجلس الانتقالي الليبي محمود جبريل حسب الموقع الالكتروني لسفارة الصين في باريس " أن الصين مستعدة لتقديم مساعدة في إعادة اعمار ليبيا على مستوى قدراتها بعد الحرب, وتأمل الصين أن يأخذ المجلس الوطني الانتقالي بالحسبان هاجس الصين الأساسي ويحترم التزاماته ويضمن حقيقة مصالح الشركات الصينية في ليبيا " وكانت ليبيا قد بدأت 50 مشروعا اقتصاديا كبيرا في ليبيا قبيل الإطاحة بالعقيد القذافي.
6- تعدد الحركات الإسلامية السياسية وكثرتها وتنافسها ومنها الإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي والجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا التي بدأت كواجهة سياسية للإخوان المسلمين ثم انفصلت عنهم كليا ولا زال خطر الجماعات الإسلامية والمتطرفة منها خصوصا يتنامى فقد كتب هارون ي. زيلين من معهد واشنطن في نيسان 2013 تحت عنوان "التيار الإسلامي في ليبيا" يقول " في اللحظة التي ألقت فيها «الجماعة المقاتلة» سلاحها بعد الحرب وانخرطت في العملية السياسية، بدأت جماعات جهادية جديدة في الظهور، كانت أكبرها "كتيبة أنصار الشريعة في بنغازي" التي أعلنت عن نفسها لأول مرة في شباط/فبراير 2012 بزعامة محمد الزهاوي، الذي كان مسجوناً في عهد القذافي في سجن "أبو سليم" سيء السمعة. ويعتقد أن الجماعة كانت وراء الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي في 11 أيلول/سبتمبر 2012. بالإضافة إلى صلاتها على الإنترنت مع "جماعة أنصار الشريعة في تونس"، فإن "كتيبة أنصار الشريعة في بنغازي" تربطها علاقات فضفاضة مع عدة كتائب جهادية سلفية في ليبيا، بمن فيهم "كتائب أنصار الشريعة في درنة" غير المعروفة، بقيادة المعتقل السابق في غوانتانامو أبو سفيان بن قمو, غير أنه لا يوجد دليل متاح للعلن يثبت التنسيق بين "كتيبة أنصار الشريعة في بنغازي" و"كتيبة أنصار الشريعة في درنة". وقد شاركت الكثير من هذه الكتائب في "المؤتمر السنوي" الأول لـ "كتيبة أنصار الشريعة في بنغازي" في حزيران/يونيو 2012؛ واستناداً على صور الحدث، فقد حضر ما يربو عن ألف شخص هذا المؤتمر. وتشير آخر التقارير إلى أن عدد أفراد "كتيبة أنصار الشريعة في بنغازي" يقدر ببضع مئات ".
7- انهيار المؤسسة العسكرية الليبية وسيطرة القبائل على مخازن الأسلحة ووصول الأسلحة الخفيفة والمتوسطة إلى أيدي الجماهير والقوى والقبائل والعصابات يجعل العمل في ليبيا محفوف بالمخاطر لأمد ليس قصير ويقدر تقرير منظمة ( كرايسز جروب ) المتخصصة في النزاعات المسلحة أن عدد الذين يحملون السلاح في ليبيا بأكثر من 125 ألف ليبي, ويشير تقرير منظمة فريدريش ايبرت الألمانية حول الأوضاع في ليبيا إلى ذلك في صفحة (8) أن التنافس القبلي على اقتناء السلاح لاستخدامه قاد البلاد وقبائلها إلى صراع مرير دفاعا عن نفسها " وعن مصالحها وتأمين عدم تهميشها خلال مرحلة تقاسم الثروات ومراكز السلطة بعد انهيار نظام القذافي ّ وهو أمر يحدث أول مرة في تاريخ ليبيا إذ تحول النسيج القبلي الذي يحتكم إلى قيم السلم الأهلي إلى قبائل مسلحة متأهبة لاشتباكات في ما بينها، ولعل أبرز دليل على ذلك، الاشتباكات التي دارت في مدينة الكفرة جنوب ليبيا بين قبائل النبو ذات الأصول الإفريقية التي تشكو من التهميش الاجتماعي والسياسي، وقبائل الزوى ذات الأصول العربية. وتغذت القبائل بالعنف واستخدام الأسلحة من تدهور الأوضاع العامة في البلاد وخاصة من الانفلات الأمني، إذ عجز المجلس الوطني الانتقالي وكذلك الحكومة الانتقالية على دمج الميلشيات المسلحة في المؤسسات الأمنية النظامية حتى أن العديد من الجماعات المسلحة باتت ترفض إلقاء السلاح والأخطر من ذلك أن تلك الميليشات ترى في استخدام السلاح شرعية ثورية تستمدها من مشاركتها في إسقاط النظام ".
من كل ما تقدم يتضح لنا أن المصالح الامبريالية في ليبيا بالغة التعقيد فإلى جانب حجم الثروات التي تملكها البلد إلا أن التعقيدات السياسية والاجتماعية تجعل السيطرة هناك بالغة الصعوبة فهم أمام مجتمع منقسم ولكن تقسيماته متماسكة فكل الخلافات العقائدية والسياسية تنهار أمام التماسك القبلي والعشائري والجهوي وبالتالي فان الامبرياليين يملكون من القدرة على الانتظار طويلا للتمكن من تفكيك كل أشكال التماسك القائمة إما لصالح الانهيار التام أو حتى انهيار وحدة ليبيا لصالح أقاليمها الثلاث أو ما هو أكثر إن هي تمكنت من تعميق الخلاف بين القبائل أكثر فأكثر وهي أحيانا تجد في الحركات الدينية البديل الممكن للقبيلة فلا يمكن لفكر أيا كان أن يملك القدرة على الاقتراب من قداسة القبيلة ونظامها إلا الدين الذي لا يستطيع احد مناقشته بما في ذلك القبائل ونظامها أو زعامتها مهما كانت قوتهم ولا تخجل أمريكا وحلفائها من الزج بالدين في أتون معركة صعبة ومعقدة كتلك التي في ليبيا.
ذلك يفسر بوضوح التعداد الكبير للحركات الإسلامية وتغيرها الاطاري المتواصل وعدم ثباتها في ليبيا, بحيث بات من الصعب احصاء التنظيمات والجماعات والكتائب الاسلامية العاملة هناك لكثرتها وتفرعها باستمرار مما يجعل الولاء للعقيدة الدينية متحرك بتحرك التنظيم ولا يعود للأصل قيمة كما أن ذلك سيضعف مكانة القبيلة او الجهة وهيبتها ويصبح تغيير الولاءات عادة متأصلة وثقافة جديدة متوارثة يمكن لصاحبها أن يغير ولائه ببساطة وهو ما تسعى إليه القوى الامبريالية هناك لترسيخ وتقوية سيطرتها القادمة بعد إتمام تمزيق وحدة المجتمع الليبي فوحدة أي مجتمع وتجانسه وتجذر ثقافته حتى المتخلفة منها يمكن لها أن تكون السد المنيع أمام أي تهديد خارجي مهما كانت قوته وبالتالي فان العكس صحيح فلكي يسهل عليك إخضاع امة ما فان أول ما ينبغي عليك عمله لتضمن نجاحك هو تحطيم أسوارها وهو ما تقوم به القوى الامبريالية في ليبيا بعد انهيار نظام القذافي.
بقلم
عدنان الصباح