سأبتعد عن السياسة قليلا لأتطرق لموضوع كنت مهتما به منذ سنوات طويلة يتعلق بامتحان الثانوية العامة، أو ما يسمى في فلسطين والأردن وبعض الدول العربية الأخرى "امتحان التوجيهي"، حيث يجلس عشرات الألوف من الطلبة في نهاية العام الدراسي لأداء امتحان مصيري واحد قد يقرر مستقبل الطالب علوا أو هبوطا، بدون أن يعكس بالضرورة قدرات الطالب الحقيقية.
وقد كان الطالب على زماننا يجلس لامتحان شامل بعد نهاية السنة السادسة فإن فشل فيه يطرد من المدارس ثم يجلس لامتحان شامل في نهاية الإعدادية أو السنة التاسعة فإن فشل فيه يطرد، ثم يجلس لامتحان شامل في نهاية الثانوية فإن فشل فيه يطرد نهائيا. شيء جميل أن ألغي الامتحانان الأولان ولم يبق إلا امتحان التوجيهي في نهاية سنوات الدراسة الثانوية، الذي نتمنى أن يلغى تماما ويستبدل بمجموعة مؤشرات أخرى أكثر عدلا ودقة وشمولا وقدرة على قياس قدرات الطالب وتأهيله للمستقبل.
تذكرت ثقل هذا الامتحان وأنا أتابع نتائج الامتحان المصيري التي ظهرت صباح الاثنين الماضي فامتلأت الصحف الفلسطينية بصور الطلبة الأوائل واكتظت صفحات الإعلانات بالتهاني بنجاح ابن أو بنت، بل تفاخر بعضهم بنشر المعدل الذي حصل عليه المتقدم للامتحان. وقد بلغت علامات بعض الطلبة المتفوقين 99.7٪ للفرع العلمي و 99.6 للفرع الأدبي، وهو ما يثير كثيرا من التساؤلات حول دقة الامتحانات وطرق تصحيحها.
تقدم للامتحان في فلسطين 78523 طالبا وطالبة منهم 45264 في الضفة الغربية و33273 في قطاع غزة، من بينهم 17185 طالبا في الفرع العلمي والباقون في فروع العلوم الإنسانية والتجارية والزراعية والمهنية. وكانت نسبة النجاح في الفرع الأدبي نحو 59 بالمئة والعلمي 85 بالمئة، أي أن عدد الذي فشلوا في الامتحان يقترب من 25000 مشارك، أو ثلث الطلبة تقريبا.
ولأن هذا الامتحان يحدد وبطريقة فريدة مصير الآلاف من أجيال المستقبل بطريقة ليست بالضرورة مقياسا دقيقا لقدرات الطالب، إذن لا بد من إجراء مراجعة شاملة تستفيد من تجارب الدول المتقدمة في مجال العلم والتعليم واقتباس ما يناسب مجتمعاتنا العربية.
أود أن أدلو بصوتي حول هذا الامتحان لعله يصل المسؤولين كي يراجعوا هذه التجربة العقيمة، ويترفقوا بمستقبل آلاف الطلبة وأهاليهم حيث تحول الامتحان بالنسبة لهم لمعركة مصير، زاد عليها المجتمع المزيد من الأبعاد فارتبط النجاح والفشل بمعانٍ أكبر من الحقيقة، وأصبح الرسوب صنوا للعار والفشل والتخلف يلحق بالطالب وعائلته وعشيرته، وقد يؤدي الفشل إلى عدد من حالات الانتحار سنويا، بينما تحول النجاح، حتى لو كان بالحد الأدنى أي 50 بالمئة فقط، عنوانا للسمو والفخر والتقدم والمستقبل الزاهر تعتز به العائلة كلها وتطلق الأعيرة النارية أيام كان مسموحا بها، أما اليوم فتشتعل فضاءات القرى والمدن بالألعاب النارية ابتهاجا بهذا الإنجاز. وهذا الكلام مناف للحقيقة كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي: وكم منجٍب في تلقي الدروس تلقى الحياة ولم يـنجِب.
الامتحان ليس مقياسا
لقد تجاوزت معظم دول العالم مثل هذا الامتحان إلا فلسطين والأردن ومصر ودول عربية أخرى واستبدلته برزمة من الوسائل أكثر دقة وعدلا ومصداقية في قياس قدرات الطلبة، إذ هل من المنطق أن يقاس أداء طالب أو طالبة نتيجة امتحان شامل واحد متناسين 12 سنة من الأداء المدرسي. وماذا لو مرض ذلك الطالب قبل الامتحان أو توفيت أمه أو أحد أقاربه أو اعتقل أخوه أو أصيب بحالة اكتئاب أو تعرض لحادث سيارة. أتضيع سنوات الدراسة كلها سدى؟ وماذا لو جّد طالب كسول واجتهد قبل الامتحان بشهر أو شهرين وحصل على معدل عال، رغم أن سنواته الدراسية الماضية اتسمت بالإهمال والعجز والتراخي والعلامات المنخفضة، أي عدل في هذا؟ كيف يمكن لأي إنسان أن يربط مصيره ومستقبله وسمعته ووضعه الاجتماعي بنتائج امتحان واحد؟ والأمثلة على تعرض مئات من الطلبة الفلسطينيين إلى حوادث طارئة قبيل الامتحان كثيرة، خاصة في فلسطين المحتلة حيث لا تتوقف المداهمات والاعتقالات واعتداءات المستوطنين والتعرض لإطلاق النار أو الغازات المسيلة للدموع أو سماع إطلاق النار وغيرها الكثير.
بدائل الامتحان في الدول المتقدمة
في معرض نقاش حول الامتحان وأبعاده الاجتماعية مع ثلة من المعنيين في وزارات السلطة، تحدثت عن التجربة الأمريكية في هذا المجال لأنني أعرفها عن قرب حيث يتم تقييم الطالب من خلال أربعة مؤشرات:
أولا- إنجازات الطالب في السنوات المدرسية الثلاث الأخيرة كي تتم مراقبة تقدم أو تراجع الطالب خلال سنواته الدراسية الأخيرة والمواضيع التي يبدع فيها وتلك التي لا يبدع. كما تعكس علامات ثلاث سنوات من العمل المدرسي صورة صادقة شبه دقيقة عن قدرات الطالب وطريقة عمله وجديته ونقاط قوته ونقاط ضعفه. وعادة ما تكون نسبة العلامات في المواضيع المفضلة للطالب متناسقة في سنواته الثلاث بينما تجد الشيء نفسه انخفاضا في المواضيع غير المفضلة لديه.
ثانيا- يطلب من كل طالب تقديم ثلاث رسائل توصية كحد أدنى من معلميه الذين يعرفونه جيدا. وتلك الرسائل تتمتع بالسرية ولا يطلع عليها الطالب، بل تذهب مباشرة إلى الجامعة أو المعهد لضمها إلى ملف الطالب. إنها فرصة للمعلم أن يقول رأيه في الطالب بكل صراحة وصدق؛ فلا أحد يستطيع تقييم الطالب وقدراته ومستوى وعيه ومسلكياته أكثر من معلميه الذي تعرفوا عليه أثناء سنوات التدريس في السنوات الأخيرة من الدراسة المدرسية.
ثالثا- يعطى الطالب أكثر من فرصة لأخذ امتحان تقييمي شامل (امتحان الولاية التقييمي- سات) ليس فيه سقوط، بل علامات عالية أو متوسطة أو منخفضة. والامتحان يتضمن ثلاثة أقسام: لغة ورياضيات ومنطق. وتحسب للطالب أعلى العلامات في كل جزء على حدة وفي كل مرة يأخذ الامتحان، ويمكنه أن يجلس للامتحان مرة ثانية وثالثة ورابعة، حسب جدول زمني يختاره الطالب. تضاف أعلى العلامات التي حصل عليها الطالب في الأجزاء الثلاثة بعد الجلوس لأكثر من مرة للامتحان وتصبح جزءا من ملف طلب الانتساب للجامعات وينظر إلى هذا الجزء بعين من الاهتمام، لأنه يعكس محصلة معارف الطالب ومنهج تفكيره وقدراته على تقديم حلول وربط المقدمات بالنتائج والتفكير بشكل منهجي وموضوعي.
رابعا- ينظر بشكل خاص لأنشطة الطالب خارج قاعات الدراسة كالعمل التطوعي والمشاركة في الأندية الطلابية والكتابة في جريدة المدرسة، خاصة الأنشطة الرياضية بكافة أنواعها، حيث تتنافس الجامعات على قبول الطلبة الذين يقدمون للجامعة مهارات مهمة ومواصفات قيادية. تلك المؤشرات الأربعة هي التي تحدد مستوى الطالب، فكلما كان مجموع المؤشرات عاليا تسابقت الجامعات على قبوله أو منحه بعثة دراسية جزئية أو كلية، وكلما انخفض مجموع المؤشرات انخفض مستوى الجامعة التي تقبل الطالب. ولذا فهناك طلبة متفوقون يجلسون على مقاعد الدراسة في جامعات هارفرد وبرنستون وكولمبيا وبراون وطلبة تأخذهم معدلاتهم المتواضعة إلى كليات المجتمع والجامعات ذات المستوى المنخفض. إذن المكافأة على الجهود المتواصلة والقدرات العالية والمواصفات القيادية تكون بشرف القبول في أعلى وأرقى الجامعات، لكن لا أحد يفقد حقه بالقبول في الجامعات أو على الأقل في كليات المجتمع التي تمنح الطالب فرصة أخرى ليبرز في دراسته ويتحول إلى الجامعات المشهورة.
نحن بحاجة إلى أن ننتقل ذهنيا من موضوع النجاح والفشل وبناء ذهنية تقوم على أساس الناجح والأكثر نجاحا والمتفوق. وننتقل من طريقة تقييم الطالب حسب علاماته إلى تقييمه حسب مهاراته واستيعابه وقدراته القيادية واستعداده للتعلم وإمكانياته في إتباع التفكير المنطقي بعيدا عن الحفظ والتكرار. فأمتنا بحاجة إلى جيل من المبدعين والمفكرين القادرين على التحليل والتفكير الخلاق بعيدا عن الصم والحفظ غيبا. للأسف ما زال الكثيرون يرون في اجتياز امتحان التوجيهي حدثا تاريخيا عظيما سيوصلهم إلى النجوم، ولكن ستثبت لهم الأيام في وقت ليس بعيدا أن دروب الحياة وتحديات المستقبل أعقد بكثير من أن تربط بنتائج امتحان واحد. لعل مسؤولا ما يسمع شكاوى الآلاف ممن لم يحالفهم النجاح لأسباب عديدة قد لا يكون من بينها غباء أو كسل أو إهمال.
د. عبد الحميد صيام
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز