صديقنا اختار الموت في يوم قائظ

بقلم: نبيل عودة

من المؤكد ان المرحوم اختار توقيتاً سيئاً لمراسيم جنازته وهذا جعلنا نتذكر يوم موته أكثر من كل الأيام التي عاشها.

قلت لصديقي الجالس قربي، لا ادري كيف ستتدبر النساء أمرهن في هذا الحر داخل غرفة تكاد تكون خالية من الهواء ونحن نكاد نموت اختناقاً في غرفة تهويتها أفضل. قال انه لا خوف على النساء، سيتدبرن أمرهن أفضل منا. قلت في نفسي هل هي عودة لاختلاف الآراء، أم هو موقف من المرأة؟! أضفت بسخرية همساً ان الدموع ستختلط بالعرق ولن نعرف من منهن أكثر حزناً.

نجحت بالحصول على ابتسامة عريضة استطالت حتى كادت تقيم خطاً واصلاً بين أذنيه. امتدت الابتسامة لوقت أطول مما هو مسموح به في وضع الحزن المفروض ان نظهره في وداع صديقنا المتوفى. الإطالة بالابتسامة لا تليق بالمناسبة ولا تليق بنا. زجرته بنظرة معبرة فضم شفتيه لبعضهما، مستعيناً بكف يده، وكأنه يحاول ان يمنع أمراً ما من الانفلات. ربما ضحكة، "سيسوّد وجهنا!!" تمتمت هارباً من الموقف وكأني أؤكد لنفسي:

-      صديقنا المرحوم كان طيباً..

كانت محاولة لجر الحديث لما هو لائق، بعد ان كاد صديقي الجالس قربي يفضحنا، المرحوم صديقنا منذ وقت طويل، لا يختلف عنا ولا نختلف عنه وله حالاته ولنا حالاتنا. ايجابياتنا وسلبياتنا تختلط أحياناً حتى يصعب فرزها عن بعض. الطيبة والسوء تندمجان، همومنا اكبر من ان نفرز بين الخصال الطيبة والخصال السيئة، كل شيء في حياتنا متداخل، أحياناً هناك فائدة بل ضرورة لكي تكون سيئاً، رغم جيلنا المتقدم، عشنا حياتنا بكل لحظاتها، فهل نستطيع ان نواصل ما كنا به بعد أن فقدنا ضلعنا الثالث ..؟!

-      طيبته هي التي جمعت بيننا هذا العمر الطويل، لم نفقد مجرد صديق.. فقدنا أنفسنا أيضا.

نظرت إلى صديقي، فرأيته يهز رأسه علامة الموافقة، مرة أخرى يتفق معي .. أو ربما يعارضني بأسلوب لم أعهده من قبل، قال:

-      الطيبة تبدو سلبية إذا اكتفينا بها لوصف ما كان عليه صديقنا المرحوم بالفعل.

هذه مزايدة علي أم يسخر منه؟! لعله يقصد مدح طيبته الذاتية أيضا؟ سايرته:

- الكلمات تعجز عن التعبير، للأسف فقد فقدناه.

- خسارتنا كبيرة.

نظرت إليه، فبادلني نظرة بنظرة وتمتم بحزن ظاهر:

-      يرحمه الله !!

همست في أذنه:

-      وليرحمنا معه في هذا الفرن الملتهب..

قال وهو يدفعني خلسة بكوعه:

-      هذا الاختناق جراء الحر الملعون يُصعّب علينا الحديث عن المرحوم.

قلت لنفسي ان عقلنا ذاب ولم نعد نعرف هل نتنفس هواء نظيفاً أم نستنشق ثاني أكسيد الكربون الذي تطلقه أنفاسنا في أجواء هذه الغرفة- الفرن، ويزيدها سوءاً سحابات دخان السجائر في سقفها، ملوثاً هواءها، دون ان يجد له مخرجاً إلا بالعودة مرة أخرى لرئاتنا لكي نتنفسه من جديد.

لعنت الساعة التي قبلت فيها الجلوس داخل الغرفة، بدل الانزواء في ساحة البيت الأكثر تهوية، رغم ان الشمس "تضربها" معظم ساعات النهار، حرارة الشمس أهون من جو الغرفة، على الأقل الهواء خال من دخان السجائر وعملية التنفس أسهل.

-      الله يرحمه.. لم اصدق انه مات.. هل يموت الطيبون أمثاله؟!

التفت إلى مصدر الصوت، وزجرت ابتسامة كادت تفضحني. كان المرحوم يقول عن "صاحب الصوت" انه بصعوبة يرد السلام، ولكنه سيكون أكثر المعبرين عن لوعتهم بفقدانه، ولن يتردد ان يتبوأ مركز الصدارة في الجنازة، وتناول الوجبة عن روحه، والاشتراك في مراسيم التعزية.. وها هي نبوءته تتحقق.. شعرت بسخرية عميقة تجتاحني وتكاد تطلق لساني بما لا يليق بجو العزاء  وتابع "صاحب الصوت" مظهراً لوعته وأساه وحيرته:

-      فقط أمس رأيته.. وقفنا نتحدث لبضع دقائق..

همس لي صديقي ان هذا الحديث افتراء وانه بصعوبة كان يبادله السلام..

قاطعته:

- معلوماتك موثقة بشهادتي.. لم تجدد لي شيئاً، صديقنا المرحوم كما تعلم، غائب عن الوعي منذ أكثر من أسبوعين.. منذ دخل المستشفى،ـ ويبدو ان صاحبنا هذا لم يسمع بتلك التفاصيل، اصبر وسيتغير الأمس إلى فترة ملائمة لرقود صاحبنا في المستشفى، قال لي همساً:

- لم يتعرف عليه في حياته ويريد ان يتزعم في جنازته؟!

همس قريب للمرحوم في أذني، بعد ان سمع شيئا من همساتنا:

- هذا ابن عمنا، لا "ينفع" إلا في الجنازات .. مهمته ان يقبرنا. عندما يفتح فمه لا يعرف ما يقول. تعودنا عليه.. مصيبتنا به اكبر من مصيبتنا بالمتوفى..

- معلوم... كان المرحوم يتشاءم منه ولا يطيق مجالسته.

- ما باليد حيلة، نرجو ان يلهمه ربنا الصمت... على الأقل حتى يمر العزاء!

عاد "صاحب الصوت" يزأر:

-      سبحان الذي يغير ولا يتغير.

قلت بصوت مرتفع قاصداً قطع الحديث عليه:

-      الحر هذا الصيف غير طبيعي... روحنا في حلقنا يا شيخ.

تأفف الجميع ... أضفت:

-      الصمت اسلم الأمور في هذا الحر.. الصمت رحمة في هذا الجو الخانق، ما قولك يا ابن عم المرحوم؟!

وصلت الرسالة!! ربما فيها شيء من الوقاحة؟ زأر "صاحب الصوت" بشيء من الضيق وعدم القبول:

-      الموت حق يا اخوان...

قاطعه صديقي تلقائياً، دون ان يشعر انه يتجاوز اللياقة المفروض ان يلتزم بها في مناسبة كهذه، لكن يبدو احيانا ان للياقة معاييرها المختلفة ، قال صديقي :

-      كنت وصديقي (وأشار إلي) والمرحوم لا نفترق عن بعض، رغم رقوده في المستشفى غائباً عن الوعي لمدة أسبوعين.. إلا ان موته صدمنا.

فهل سيصر "صاحب الصوت" على موقفه انه التقى صاحبنا المتوفي أمس؟! يبدو ان الرسالة وصلت فآثر "صاحب الصوت" الصمت حتى يجد منفذاً جديداً..

تأففت من بطء مرور الوقت، تيقنت ان هذا شعور الجميع الذين يستعجلون الوقت لإنهاء مهمتهم والتفرغ لشؤونهم الأخرى.

أحيانا تشدني أفكاري لأمور لم أفكر بها من قبل، أكاد أجزم أن فكري لن يتداولها، ربما هذا هو جزء من تخلفنا؟

استفاق صديقي من صمته وهمس بأذني:

- ما بال بغلتك سارحة؟!

- لم اعد استطيع احتمال هذا الجو الخانق.

- عشان المرحوم كل شيء يهون..

- أنت تعرف حساسيتي للدخان.. يفقدني وعيي.

- اهدأ واصبر.

هل يسخر مني؟!

كالمستفز انتصبت واقفاً ومعتذراً:

-      المعذرة، سأجلس في الساحة، أكاد اختنق من الدخان.

لم يعن الأمر أحدا كما يبدو. شعرت بنظراتهم الباردة في ظهري وانا أتسلل للخارج لاقطاً أنفاسي بصعوبة، أخذت لي مقعداً في الظل شاعراً بتحرري من هم غير قليل. قلت لنفسي ما دامت هذه الحال فمشوارنا طويل . بعد قليل وجدت صديقي يسحب كرسياً ويلتصق بي.

- افترض اني مت.. ستلحقني؟!

- كل يموت على ذوقه.. ولكن إياك ان تفعلها بالصيف.

كدت ابتسم رغم عصبيتي الظاهرة وقلت:

- ما عساي أقول ؟.. كنا ثلاثة لا نفترق فبقينا اثنين، للأسف لا استطيع ان أفكر بشيء.

- ما يرعبني هو هذا الاستقبال البارد للموت، حقاً يعز علينا فقدان صديقنا، لكني أشارك بجنازته كأنه واجب وليس كصاحب فقد صنوه.

- ربما نحن في مرحلة ما بعد المشاعر، ما بعد العواطف؟

نظر إلى ساعته ليخبرني:

- بقيت أمامنا ساعة

- ..؟

- هل تستعجل التخلص منه؟

- أبدا، لكته اختار الموت في يوم قائظ وهذا سبب ضيقنا .

- هل ستحاسبه؟

تجاهلني وقال:

- من المؤكد ان هذه بداية نهايتنا.

- اتركنا من تشاؤمك أم ستبدأ بالقاء موعظة ؟

وأضفت:

- جئت أستريح من الجو الخانق، فلا تزيد همي، مواعظ كهذه لم اعد أقوى على سماعها.

- لا اشعر بحزنك لرحيل صاحبنا ..؟

- هل تريدني ان أقف "ماعطاً" شعري..؟

- توقعت منك كلمة مناسبة..

- قلت لك كنا ثلاثة وبقينا اثنين.. ومن الاثنين سيبقى واحد..

- أنا أم أنت؟!

- هل تظنني أتنازل بسهولة؟

قادنا حديثنا بعيداً عن أجواء الجنازة، فلم ننتبه لأنفسنا إلا والرجال يدخلون لحمل النعش في طريقه الأخيرة، سارعنا نشارك بحمل نعش صديقنا وللحظات كادت الدموع تفر من مقلتي .

سرت وراء النعش وخاطري مكسور، شاعراً ان جزءاً مني قد انتهى، لم استطع ان افهم معنى هذا الشعور الذي اعتراني بلا مقدمات ، تابعت سيري وراء النعش أنا وصديقي وفي رأسي تتصارع أفكار شتى لا رابط بينها .

نبيل عودة

[email protected]