من خلال قراتي للاحداث في تركيا وما حدث من انقلاب استوقفني عدة امور تستوجب منا التوقف عندها هو حاجز الثقافة السياسية والدستورية الناضجة هو أهم الحواجز المانعة من الانقلابات العسكرية.
ومايمنع الانقلابات العسكرية في الديمقراطيات العريقة حالياً ليس عجز الجيوش عن الإطاحة بالسلطة المدنية، بل المانع الحقيقي هو أن ثقافة المجتمعات في تلك الدول - بما فيها ثقافة الجيوش- لا تستسيغ الانقلابات على السلطة الشرعية من الناحية الأخلاقية والقانونية. وما رأيناه في تركيا خلال الانقلاب يدل على تطور عميق في اتجاه الثقافة السياسية والدستورية الناضجة، التي تُكسب الدول مناعة ذاتية ضد الانقلابات العسكرية.
تبين ذلك من خلال الهبَّة الشعبية الشجاعة ضد الانقلاب، واعتراض قيادات فعالة في الجيش التركي عليه ، والدور الرائد الذي اضطلعت به الشرطة والقوات الخاصة في وأده، وتنديد كافة القوى السياسية به من البداية.. على أن ما شهدناه في تركيا تعبير عن إرادة جمعية وثقافة عميقة، لا مجرد مواقف سياسية عابرة ، أو تعلُّق بشخص الرئيس رجب أردوغان فبعض المعترضين على الانقلاب هم من أشرس المعارضين للرئيس أردوغان .
فليس من ريب أن أردوغان من عظماء القادة السياسيين في عصرنا، وأن شجاعته وروح المبادرة والمغامرة لديه كانت من العوامل المهمة التي قتلت الانقلاب في مهده، وتأييده الكاسح بين الجماهير العربية اليوم يرجع إلى أنه عنوان ملحمة الحرية والبناء في بلده الذي تجمعه مع العرب أرحام الدين والتاريخ والجغرافيا.
كما أن تركيا تحت حكمه أصبحت منارة للحرية وملجأ للأحرار من العرب الذين ضاقت بهم أوطانهم. لكن ما رأيناه خلال الانقلاب الفاشل في تركيا أعمق من دور أردوغان أو أي قائد سياسي آخر، وهو يعكس تطورا كبيرا على سلَّم الثقافة السياسية.
إن الهبَّة الشجاعة التي انطلقت في تركيا، نسفتْ أحد أخطر الانقلابات العسكرية، في إحدى أخطر المفاصل من تاريخ تركيا المعاصرة، تدل على تطور كبير في الثقافة السياسية، ونضج كبير للأفكار والقيم السياسية، وصلابة في المؤسسات الدستورية التركية. أما الاستسلام السهل للانقلاب العسكري في مصر -وهو انقلاب مُجاهر أقرب إلى الابتزاز العلني منه إلى الانقلاب العسكري المستتر- فهو يدل على أن الثقافة السياسية في مصر خاصة -وفي البلاد العربية عامة- لا تزال تنتظر الكثير من النضج.
ومثل ذلك يقال في تردد بعض الحواضر السورية في الالتحاق بالثورة في بداياتها، مما أتاح لسفاح دمشق أن يدمر مدن البلاد بالتقسيط. وكذلك المصاعب التي تحول بين النخب الليبية وبناء دولة ديمقراطية على أشلاء نظام القذافي؛ فكل الثورات العربية عانت -ولا تزال تعاني- من ظاهرة الأنانية السياسية.
فإذا كان من درس يتعلمه العرب من هبَّة الشعب التركي البطولية، التي أفشلت الانقلاب العسكري الغادر، وأنقذت البلاد من الاستبداد والحرب الأهلية، فهو ضرورة بناء ثقافة سياسية عربية جديدة، تتحرر من الأنانية السياسية، وترجِّح القيم السياسية على البرامج الحزبية، وتُعلي إرادة الجماعة والخير العام على مطامح الأحزاب وأهواء الحكام.
بقلم/ غادة طقاطقة