اصنعوا حباً لا حرباً في ذكرى العدوان الإسرائيلي على غزة

بقلم: نعمان فيصل

لكل منا ذكرياته، وكل ذكرى تحمل حكاية، كان صعباً عليَّ أن أروي ذكريات العدوان الإسرائيلي على غزة في صيف 2014م، فقد خشيت أن تبدو ضئيلة جداً أمام المجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال ضد شعبنا، هذا الجيش الذي أصابه الجنون الحاد، لدرجة أنَ كلَّ ما قيل عن جنونه من قبل كان مجرد تكهنات صغرت أمام بشاعة المشهد، خامرتني رغبة قوية في التوقف عن الكتابة، والحديث لهول ما رأيت، ووحشية ما سمعت، ويصعب جداً تصور المشهد من خلال الكلمات، فإن بعض الأحداث تحدث حولك، وتظل برغم ذلك شيئاً من اللاواقع، بعض الوقائع تراها ولا تصدّقها، تراها فلا تحدّها قدرتك على الرؤية، ولا تعيها طاقتُك على الوعي، فكم تتحمل هذه الذاكرة وكم نُحمّلْها، ومع ذلك فقد أصبح عقلي مُكتظاً بالذكريات والانطباعات الحزينة، ولن أستطيع أن أطرد من الذاكرة تلك الأشياء الفظيعة، وكم ترتكب الذاكرة من الجرائم حين تنسى؛ ولكني لم أنسَ كيف كانت غزة تبدو أيام العدوان.

تبدأ الحكاية، وهي حكاية مدينة تروي بشاعة الموت، من المثل العامّي الفصيح: (حبلت في الخليل، وولدت في غزة)، ولا غرابة في ذلك، فالخليل وغزة وطن واحد، والمولود في وطنه، فمنذ خُطِفَ المستوطنون الإسرائيليون الثلاثة، في مدينة خليل الرحمن في 12 حزيران 2014م، حاول الإسرائيليون تعليق فشلهم على غزة، التي كانت تتأثر بكل شيء من حولها، وكان شلال الحقد الدافق عند إسرائيل يبحث عن الانتصار من أجل الانتصار، وكان لا بدَّ من معركة، معركة الردع للجيش الذي لا يُقهر، وكانت حدة العدوان ترتفع، وكانت غزة تنحدر إليها بسرعة، وكان السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل يمكن أن تُحاسب غزة على خطيئة غيرها؟ وهل يمكن أن يُهمل تاريخ منطقة لأن إسرائيل وضعتها مُرغمة في خانة الإستراتيجيات الدولية؟ أو بالأحرى ذلك التعبير الذي أصبح يعني، في معجم السياسة الدولية، نقطة اللاعودة واللارجوع، إنَّ غزة لم تذهب طوعاً إلى أي مكان، لكي يصبح لزاماً عليها العودة أو اللاعودة؛ وهي تهمة نفتها، وشرف لم تدعيه.

وفي ليلة غاضبة لا ضوء للقمر فيها دخلت غزة دوامّة العنف، ولم يعد بإمكانها أن تتراجع.. قاسية هي غزة، وفي الليل تبدو، وكأنها بكل سكانها، مثل مدينة مهجورة، يحكمها الرعب والخوف ونشرات التلفاز، ولا تسمع في هدأة الليل وسكون المدى سوى صفارات سيارات الإطفاء والإسعاف، كل دقيقة، كل لحظة، كلها أجراس إنذار وبشاعة، وناس مهووسون من شدة الوحدة والقلق، ولا ترى إلا دخاناً يتصاعد مُلتوياً هارباً تقلبه ريح الشمال كيفما هبت، كل يوم يأتي مثل غيره، الصباح مثل الظهر، ومثل المساء، وحدها غزة من بين مُدن العالم ينتشر في أرجائها هذا الخوف، تعيش تحت القصف، وتغرق في الظلام، فيعود سكانها إلى العصر الحجري، وكنا نتجمد أمام التلفاز، ونحن نرى شهوة القتل التي غلبت على جيش الاحتلال حين أباد عائلات بكاملها فمحيت من السجل المدني، وحين هدم كثيراً من المنازل على رؤوس ساكنيها؛ فقتل مَن قتل من الأطفال والنساء والطاعنين في السن، حتى تناثرت أشلاؤهم قطعاً في أماكن متفرقة.

ولعلَّ من المشاهد التي لا تنساها الإنسانية مشهد قتل الأطفال الأبرياء على قارعة الطريق، أو تحت الركام في حي الشجاعية، وفي خزاعة، وفي رفح.. حين منعت سيارات الإسعاف نقلهم، واستمر الحال أسبوعاً كاملاً، حتى تحللت جثثهم، وهي عابقة بروائح البارود، بما يُنذر بكارثة صحية وبيئية، يا للهول! يا للهول! ويكتشف الإنسان، وهو يغور في الزمان، أنه مجرد مخلوق أعزل أمام آلة الحرب الإسرائيلية، كانت غزة تسير إلى أقصى الحزن عندما نسف الاحتلال عدداً من المساجد والمقابر والمدارس والمستشفيات، ودمروا خطوط الكهرباء، وخربوا كل ما يساعد على بقاء الحياة البشرية، وقد بلغ الأمر أشده عندما قام جيش الاحتلال بتهجير كل العائلات من بيوتهم بحي الشجاعية تحت راجمات القصف العشوائي، والأطفال يجهشون بالبكاء حزناً وذعراً، هذا يحمل أباه المُسن، وفي نفسه غُصة، وذاك يحمل طفله الرضيع، وفي قلبه ألم يعتصره، وتراهم هاربين من الموت، وقد غارت عيونهم بين أجفانهم من شدة الخوف، وفيها دموع تحجرت وتجمدت، وهم لا يعرفون الشكوى، ويتحملون الألم والبلوى ولا يستسلمون؛ لأن الأمل القادم أهم من كل شيء، ويهون أمامه كل شيء، ومن المشاهد التي لا تنسى صورة الطفل (أحمد) ذي الرابعة من عمره، والذي لا يعي ما يدور حوله، وينادي: أبي، لماذا تركت لعبتي في البيت؟.

في هذا الوقت كانت تلك العائلات الهائمة على وجهها تبحث عن مأوى للانضواء تحته، كانوا لا يملكون من متاع الدنيا إلا الثياب التي يلبسونها، وكانوا يتخبطون ولا يدرون شيئاً عن مصيرهم، وبعدما ضاقت الأرض بالناس في ظل الظروف الصعبة فتحت الكنائس ومدارس وكالة الغوث (الأونروا) أبوابها للأهالي النازحين، ولم تتسع هذه الأماكن، على سعتها، للمشردين التي أصبحت كعلب سردين. يقاسون حر الصيف الملتهب، ويستضيئون بضوء النجوم، ويعيشون أحياناً على الإعالة، ويأكلون الخبز والمعلبات، ينام بعضهم أحياناً من دون عشاء، وفي أحيانٍ كثيرة أخرى كانوا ينامون، وقد طووا صفحة جوعهم برغيف مبلل بالمياه المحلاة بالسكر، أو برغيف مدهون بشيء من الزيت.

في هذه الحالة البائسة لم تسلم بعض المدارس الآهلة بالمُهجَّرين من القصف الذي تحدى كل الشرائع والقوانين الإنسانية؛ فيسقط عشرات الأطفال شهداء في عملية تشبه الألعاب النارية، أو كأنها مسرحية متصلة ذات فصول متعددة قوامها هذا السرد الجزل الذي يساوي بين أقصى المأساة وأقصى المرارة، وفي نهاية الأمر، فإن غزة ليست سوى كتاب كُتب بالدماء، هذا التاريخ يروي حكاية معركة بعد الأخرى بكل ما فيه من غزارة غير ممكنة التعبير، من أجل أن تعرف شيئاً من أسرار غزة، قلعة الصمود، وشيئاً من خداع التاريخ، وإكراماً لأولئك الخارقين الذين كتبوا التاريخ، كلٌّ على طريقته، فالغزيون بائعون متجولون يبيعون التاريخ في كل معركة، وفي كل مكان، وحيثما وجد.

ولعلَّ من المشاهد المؤثرة مشهد الطبيب إبراهيم أبو هربيد الذي انهمك في علاج واسعاف وإنقاذ حياة المصابين في منطقة بيت حانون الحدودية، إذ حينما وصلت سيارة اسعاف مسرعة تحمل بعض الجرحى والشهداء، فإذا بالطبيب يفتح بابها، وبدأ يتفحص الجرحى والشهداء فيها، لعله يكون سبباً في إنقاذ حياتهم، فإذا به يتفاجأ بأن إحدى الجثث هي جثة ابنه البكر (يحيى)، وقد قضى نحبه شهيداً في المعارك التي دارت رحاها مع الجيش الإسرائيلي في بيت حانون، فما كان منه إلا أن أخرج هاتفه المحمول، والتقط لابنه صورة الوداع قائلاً قبل أن يتوجه ليعالج الجرحى الآخرين: (وداعاً يا بني، سأتركك الآن، لأعالج بقية الجرحى والمصابين)، وفي مشهد قل حدوث مثله لما امتاز به هذا الطبيب من رباطة الجأش.

ومن بين صور هذا العدوان صورة لا تنسى، وهي مشهد الخراب والدمار الذي خلفه جيش الاحتلال شرق حي الشجاعية الذي لم نرَ مثل حجمه من قبل، في هذه المباني العتيقة والأزقة الجميلة المليئة بالفرح عاش الناس أعمارهم هنيئة منذ قرون طويلة، والتي كان قدرها أن تصبح في لمحة عين منطقة منكوبة، تلفّها معالم الخراب، وتلال الركام، وشريط الذكريات، وحين وقف الناس يتأملون هذا الخراب الذي ضرب منطقتهم بما يشبه الزلزال هالهم المنظر، وهم يتلمسون بيوتهم التي اندثرت تحت وطأة العدوان، فلا يعرفونها، وتبدو للناظرين بقعة باهتة مهجورة اختفت معالمها، يقول لك الدليل: إن هنا كان بيت زيد، وهناك كان بيت عمرو، ومع هذا كله، فإن غزة لم تنْحنِ ببساطة كالجبل، وهي عصيّة على النكبات لا ترهبها قوة الضربات، فقد ثبت في سفر التاريخ أن النصر في الحياة يحصل عليه مَن يتحمل الضربات، لا مَن يضربها.

ومن الملاحظ أن هذا العدوان قد اكتسب سمة مميزة انفرد بها عن سائر الاعتداءات الإسرائيلية السابقة، وهي ما اصطلح على تسميتها بالهدنة الإنسانية التي كانت تُبرم بين وقت وآخر ولمدة محددة، بتوجيه من هيئة الأمم المتحدة لقضاء الناس حوائجهم، والتخفيف من معاناتهم، فكم من الجرائم كانت ترتكب باسمها! فالهدنة الإنسانية كلمة براقة، كانت تُستعمل للتمويه والخداع في هذا العدوان، وليس فيها من الحق سوى اسمها، ولا من الواقع سوى رسمها.

حتى هذا البحر الأزرق كان صاخباً ضاجاً على ما يجري في مدينته، ومعالم الغضب ترتسم على أمواجه، هذا البحر نعمة الخالق للخلق، مهد الحضارة في الكون، تتجمع حوله ثلاث قارات وديانات وأساطير، كان عالم أهل غزة لا يتعدى هذا البحر بسبب مآسي الحصار، يقضي المصيفون في فصل الصيف أجمل أوقاتهم على شاطئه، يسترخون ويتفيأون، ويصطادون من خيراته ما لذَّ وطاب، ولم يعد هذا البحر المطل على غزة أزرق بلون السماء الصافية كأي مكان على المتوسط؛ بل أصبح قاتماً غامقاً كمثل هبوب عاصفة في الشتاء، هذا البحر المتوسط مستباح، مستباحٌ بالزوارق الحربية، هذا المتوسط ملوثٌ بالقاذورات والنفايات، مُخضبٌ بالدماء التي سالت على شاطئه، عندما قتلوا براءة الأطفال بدم بارد وهم يلهون، دون أن يكترث أحد بهذا الشعب – المغلوب على أمره – ولم يجرؤ أيٌ من إخواننا العرب على إيقاف اليهود عن حمام الدم والقتل والهدم، حتى المجتمع الدولي لم يملك بعد الشجاعة لأن يحدثنا عن آلامنا، ظل صامتاً، لا يحرك ساكناً، ولم يتخذ موقفاً جدياً وصحيحاً إزاء العدوان، وسط أنواء هذه الحالة السيئة وتياراتها الجارفة، كم كنا نحلم بسلام أخضر، وهلال أبيض، وبحر أزرق، وكل ذلك كان يبدو لي مثل أحلام، يتمنى المرءُ أن يعيشَها!! وأخيراً صرخت: اصنعوا حباً لا حرباً.

بقلم/ نعمان فيصل