أيا كانت الحقائق حول الانقلاب الأخير في تركيا وبغض النظر حتى عن عقلية المؤامرة التي تذهب إلى حد الاعتقاد أن أردوغان نفسه هو من دبر الانقلاب إلا أن ما يقوم به أردوغان حاليا في تركيا وكنتيجة للانقلاب هو الانقلاب الحقيقي الأقسى وهو الذي سيكون القشة التي ستقصم ظهر نظام أردوغان في تركيا وعلى يديه هو لا غيره.
الانقلاب الذي بدا هزيلا منذ اللحظة الأولى فهو لم يستهدف رأس النظام الذي كان من المفترض أن يكون بدون حماية حقيقية وفي جزيرة معزولة يسهل السيطرة عليها وبنفس الوقت حاصر البرلمان أثناء انعقاده مما يعني أن الشرعية الحقيقة للنظام ظلت بكامل أهليتها ثم أن الانقلاب وجد معارضة حقيقية من كل الشعب بكل قواه الحكومية والمعارضة بكل الأطياف من اليمين إلى اليسار وخرج الشعب التركي جميعا لحماية الديمقراطية لا لحماية أردوغان كما يعتقد على ما يبدو.
بدل أن ينتصر أردوغان لنظامه بالالتفاف الجماهيري من حوله وبدل أن يجعل من ذلك فرصة لترسيخ الديمقراطية التي حمته راح يسعى إلى مجموعة من الإجراءات لتعميق الانقسام بدل وأده وجعله محصورا في ثكنات قلة قليلة ومعزولة داخل الجيش, وهي قلة ظهر ضعفها واضحا في تصرفاتها ومخططاتها وسهولة الانقضاض عليها وانقسام الجيش حول موقفها وعدم مساندة الأجهزة الأمنية وهي حالة غابت كليا عن كل الانقلابات الناجحة السابقة التي قام بها الجيش التركي بكل سهولة وحنكة وحتى دون أن يعترض احد.
الفشل الذي مني به التمرد الضعيف كان يمكن له أن يكون عصا قوية بيد أردوغان لغده القادم ولرغبته بنظام رئاسي مطلق لو انه لم يتصرف بشكل ظهر وعه واضحا ان لا يقوم بردات فعل ضد الانقلابيين بل ينفذ أجندة مسبقة الصنع ومبيته ضد المجتمع المدني والديمقراطي برمته قبل الجيش.
أردوغان الذي بدأ عهده بالانقلاب على رفيق المسيرة ورئيس حزبه ورئيس وزراءه داوود أوغلو الذي تنحى عن رئاسة الوزراء ورئاسة الحزب لصالح الرجل الذي يسعى إلى نظام رئاسي شمولي يقف هو شخصيا على رأسه ولأنه يدرك انه لن يتمكن من تعديل الدستور في البرلمان لعدم قدرته على حشد ثلثي أعضاء البرلمان معه فقد توجه إلى فكرة الاستفتاء الشعبي لتحقيق مطلبه.
أردوغان وجد في الانقلاب الفاشل فرصته للضرب بيد من حديد حيث كان يرغب لإزاحة معارضيه من طريقه التي يسعى إليها ملكا متوجا على تركيا فهو لم يكتفي بالإجراءات ضد العسكريين المنقلبين وأنصارهم في الجيش بل انتقل وفورا إلى المنظومة المدنية الديمقراطية وفي مقدمتها جاز القضاء الذي يعتبر العمود الرئيس لأي نظام ديمقراطي وقد اصدر رئيس نقابة القضاء في تركيا مصطفى كاراداغ بيانا اتهم فيه أردوغان بتوجيه الضربة إلى خصومه من خلال حركة التطهير القضائي التي طالت 2800 عسكري فقط بينما طالت 2800 قاضيا عدا عن أعضاء في المحكمة الدستورية العليا وعشرة أعضاء من مجلس شورى الدولة وعضو في المحكمة العليا وخمسة أعضاء في المجلس الأعلى للقضاء علما أن الاقتراب من القضاء في سائر الأعراف الرسمية والأخلاقية يعتبر جريمة يصعب غفرانها كما دفع أردوغان البرلمان عبر حزب العدالة والتنمية إلى تمرير قرار برفع الحصانة عن 138 نائبا ينتمون لحزب الشعب الديمقراطي المؤيد لقضية الأتراك وهي جريمة برلمانية لم يشهد لها التاريخ مثيلا وهي إعادة للصراع الداخلي ورحى الاقتتال من جديد بعد أن كانت الأجواء قد هدأت كثيرا هناك ولم تتوقف هذه الإجراءات بعد وقد تطول وتطول.
أردوغان أغلق 1669 مدرسة و449 سكنا طلابيا و284 مؤسسة تعليمية خاصة كما أوقف تراخيص 21000 مدرس من بين 27000 مدرس يعملون بتراخيص حكومية وطالب مجلس التعليم العالي في بإقالة 577 من عمداء الكليات في الجامعات التركية، بينهم 176 أستاذا في جامعات حكومية و401 في جامعات خاصة و1229 جمعية ومؤسسة خيرية و19 نقابة عمالية و15 جامعة و35 مؤسسة طبية وبدورها أعلنت وزارة التربية عن إبعاد 15200 من موظفيها عن العمل مؤقتا كما أعلنت الحكومة التركية على لسان نعمان كورتولموش نائب رئيس الوزراء التركي يوم الثلاثاء، 19 يوليو/تموز، أن السلطات تحقق مع 9332 شخصا للاشتباه بتورطهم في تدبير وإعداد الانقلاب الفاشل ليلة 15 إلى 16 يوليو/تموز وكشفت صحيفة "جمهوريت" التركية عن أسماء الجنرالات الأميرالات الـ79 المعتقلين في أعقاب الانقلاب، إذ تظهر القائمة أن حملة الاعتقالات طالت القوات الجوية والبحرية والبرية، وقيادة الكليات العسكرية الأساسية، وقيادة الدرك والاستخبارات وكشفت وكالة "رويترز"، نقلا عن مصدر في مكتب رئيس الوزراء التركي، عن عزل 257 من العاملين في المكتب من مهامهم مؤقتا للاشتباه بتورطهم في إعداد الانقلاب الفاشل. وأوضحت الوكالة أن قرابة 2600 شخص يعملون في مكتب أردوغان، وتم عزل نحو عشرهم. كما أعلنت مديرية الشؤون الدينية في الحكومة التركية، إبعاد 492 من العاملين في المديرية عن أداء مهامهم.
أما في ما يخص الإعلام فقد طالت الإجراءات عديد وسائل الإعلام مما يهدد حرية الرأي والتعبير هناك فقد سحبت السلطات التركية تصاريح العمل عن 24 من وسائل الإعلام المسجلة في الجمهورية، للاشتباه بصلاتها بالداعية فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة، التي تتهمه أنقرة بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة كما اصدر القضاء التركي مذكرات توقيف بحق 42 صحافيا بينهم نازلي ايليجاك المعروفة في تركيا, كما أن الهيئة الناظمة لوسائل الإعلام المرئية والمسموعة سحبت في التاسع عشر من تموز/يونيو رخص عمل العديد من قنوات التلفزيون والإذاعات التي يشتبه بدعمها لشبكة الداعية فتح الله غولن الموجود في المنفى في الولايات المتحدة والمتهم بالوقوف وراء الانقلاب الفاشل.
الدولة التركية الديمقراطية التي ذهب بها أردوغان إلى نظام الطواريء في ظل أوضاع غير مستقرة على الإطلاق داخليا بالصراع الذي أحدثه الانقلاب وكذا بقضية الأكراد التي لا تموت مع الوقت والصراعات السياسية بما فيها حتى الصراعات التي لا يعرف احد مصيرها الحقيقي داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم والصراع المتورطة به في تركيا والاختلافات الحادة مع إيران ومحاولة صناعة حلف استراتيجي مع أمريكا وإسرائيل والاحتفاظ بنفس الوقت بعلاقة جذرية مع حركة مقاومة مثل حماس كل تلك تجعل من إجراءاته الداخلية الانقلابية عبء كبير على حكومته وجيشه وتشغله كليا عن سائر الجبهات التي قد تجد فرصتها هي للانقضاض عليه وعلى حكمه بشكل أو بآخر.
التجارب الفاشلة التي مر بها إخوته في كل من مصر وتونس وما يجري من تراجع لهم في سوريا لم تعطه دسا جيدا للاستفادة منه في تركيا فمن لم يستطع فرض أجندته في دولة تونس العلمانية وغير الديمقراطي يصعب عليه إلى حد بعيد أن يفعل ذلك في تونس التي تعيش على ثلاث مكونات يستحيل التنازل عنها وهي العلمانية والديمقراطية والمواطنة فمن لا يستفيد جيدا من قراءة تجارب الآخرين حسب ظروفه لن يتمكن من الإفلات من مصيرهم ولن يقدم أردوغان النصر لا لنفسه ولا لحزبه ولا لمشروعه الإسلامي النهضوي بإعلان الحرب على من يختلفون معه بل بجلبهم إلى معسكره حتى مع اختلافهم.
أردوغان لا يحتمل الانتظار ولا يقبل الآخر ولذا جعل من محاولة الانقلاب الفاشلة فرصته للانقضاض على كل من لا يتطابق معه وهو بهذا لا يحمي مشروعه النهضوي بل يسعى لتقويضه وبأسرع مما يتوقع فالدولة العميقة التي عرفها في مصر يخشى انتقالها إليه في تركيا ولذا يسعى إلى استباق الأحداث المختلفة كليا فتركيا ليست مصر التي عاشت ولا زالت تحت نظام يتخذ من الديمقراطية يافطة ومكياجا لا أكثر وعلى العكس من ذلك فان الديمقراطية التي جاءت بأدردوغان وحكمه في تركيا عميقة وما جرى في مصر من توريط اخرق للإخوان المسلمين حد خسران الحكم يسعى إليه أردوغان اليوم وبكل رعونة غير مدرك على الإطلاق أن الدولة العميقة في مصر التي انقلبت على الرئيس الشرعي مرسي هي في تركيا ديمقراطية عميقة يصعب استئصالها أيا كانت الإجراءات المتخذه هناك فالشعب التركي الذي لم يعد يذكر الديكتاتورية لا يمكن له أن يقبلها من جديد وهو لا الجيش سيجد نفسه مضطرا للدفاع عن مكتسباته العريقة والعميقة.
بقلم
عدنان الصباح