في ظل المفهوم الملتبس لـ "المصالحة" الفلسطينية، يذهب كل طرف من طرفيها الأساسيين مذاهب شتى في التماهي مع ذاته، وتأكيد نرجسيته الفئوية أو الفصائلية، من دون الالتفات إلى مواقع وطنية مفترضة، جرت مغادرتها قبل عقد من الزمن. وهكذا، تراوح الجهود مكانها، ينفخ المعنيون بها في قربة مقطوعة، فيما "المصالحة" على حالها ترفض أن تتزحزح، أو تتقدم صفوف المتحاورين المقتنعين بأن عملية "مصالحة" قبلية وعشائرية مرموز إليها كونها فصائلية وفئوية، تقوم على قاعدة برنامج سياسي أكثر إلزاماً، ما زال هو الآخر يفتقد مقومات وجوده وتحققه منذ عقد السنوات العجاف التي أودت بالوحدة السياسية، ولو بصيغها الفوقية أو غير المكتملة، ومزقت إجماعاتها الوطنية والجبهوية، وأضرت أيما إضرار بالوحدة الجغرافية وما جلبته من مآس وكوارث، ما لبث المواطن الفلسطيني العادي يعاني منها، كنكبة أو نكبات ما تني تتجدد وتجدد مآسيها جيلاً وراء جيل.
وما قيل عن أسباب تفجير المحادثات الأخيرة بين طرفي الانقسام (فتح وحماس) يكشف عمق عورات الخلاف المزمن، منذ بدأت جولات المحادثات المكوكية بين الطرفين، وفي عدد من العواصم العربية التي لم تستطع أي منها إلزام أحد الطرفين الحفاظ على عهده ووعده بألا يُفشل المفاوضات، بل وصلت الأمور إلى حد "حلفان أيمان" جرى النكث بها حين مغادرة مواقع الاجتماعات، وعودة أطراف "الحوار التصالحي" كل من حيث أتى، لتعود النرجسية الفصائلية والفئوية لتكون سيدة أحكام السلطوية البارزة والمتخفية المستندة إلى أجندات غير وطنية، أبرزها معادلة المال والسلطة من جهة، وسلطات أمر ونهي إسرائيلية وإقليمية ودولية من جهة أخرى.
وكما كان الأمر منذ البداية، عادت الطرق المسدودة لتمنع التقدم في أبرز ملفات الانقسام وما تكوّن على حوافها، وما أضيف إليها من مصالح زبائنية خاصة بكل طرف، من قبيل ملفات موظفي حركة "حماس" السابقين، وملف المجلس التشريعي، إضافة إلى برنامج الحكومة المقبلة التي يفترض أن تكون حكومة وحدة وطنية وجبهوية واسعة.
وإذا كان من التسطيح والتبسيط القول بالاحتكام إلى الانتخابات للخروج من عنق زجاجة الانقسام، وإعادة ترتيب أوضاع النظام السياسي في اتجاه استعادة الوحدة الوطنية لقوى الحركة الوطنية، يبقى إطار العلاج الرئيس وأبرز المؤثرات التي تمنع الوصول إلى العلاج، تتركّز في إسرائيل كعامل أول يستفيد من حال الانقسام وبقاء الفلسطينيين مشرذمين، فيما عوامل إقليمية ودولية أخرى تعمل على إبقائهم في الدائرة التي تتمناها إسرائيل، كنوع من الاستثمار السياسي في أزمات المنطقة.
أخطر من ذلك هو ذاك التواطؤ المكشوف والمفضوح مع التكتم على طبيعة المواقف التي لم يعد شغلها الشاغل العمل على استعادة الوحدة الوطنية، بقدر ما يجري تطويعها لغير مصلحة الوضع الوطني العام والنظام السياسي بشقيه: منظمة التحرير والسلطة. فقد جرت مياه كثيرة في النهر الفلسطيني، تغيرت وتبدلت مراراً، ولم يعد بالإمكان استعادة السيطرة والتحكم حتى في مكونات الطرف الواحد، جراء المصالح النرجسية والأنانية التي بات يحتكم إليها الأفراد على جانبي الانقسام، وجرّت معها أقساماً واسعة من بقية أطراف العمل الوطني الفلسطيني المشرذمة والمفتتة، نحو مزيد من التشرذم والتفتيت.
في ظل وضع كهذا، كيف يمكن استعادة سيطرة المجموع والكل الفلسطيني وانتظامه في الإطار الوطني العام، خصوصاً أنه يشهد تفسخات كانت العامل الرئيس لمنع قيام انتفاضة ثالثة، كما كانت دافعاً من الدوافع التي لم تساهم في استمرار الهبّة الشعبية، ولا عملت على انتظام مقاومة شعبية، طالما رُفعت كلفظ شعاري بديلاً لشعار الكفاح المسلح الذي أُسقط نظرياً وعملياً، من دون تفعيل أي عوامل ذاتية أو تهيئة أي عوامل موضوعية، كبدائل للوضع الراهن الذي تجد الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها فيه مقصية ومبعدة عن حال التحرر الوطني الذي جسّدته منذ انطلاقتها في منتصف الستينات وحتى توقيع اتفاق أوسلو، فلا هي كسبت تسويتها السياسية وسلامها المأمول، ولا هي انتصرت بشعارات "المقاومة والممانعة" التي شهدت تراخياً وهشاشة عز نظيرها في أي وقت من أوقات الكفاح الوطني.
لكل هذا، لم يعد ممكناً الرهان على مزيد من جولات "الحوار التصالحي" لأن المطلوب خطوات عملية لاستعادة وحدة وطنية جبهوية تعيد الكل الفلسطيني تحت راية من أبرز سماتها الكفاح التحرري، بدل هذا العبث السلطوي بأقدار الشعب الفلسطيني، والتسلط على مقدراته، لمصلحة أجندات إقليمية تعمل على زج شعوبنا في أتون مصالحها الخاصة المتلونة، والملوثة بالفتن الطائفية والمذهبية. فإلى متى يبقى الوضع الفلسطيني رهينة استثمار الآخرين اللاعبين على تناقضاته التي يبدو أنها باتت تناحرية؟
ماجد الشّيخ
* كاتب فلسطيني