محمود درويش… بن غوريون… وما بينهما

بقلم: عماد شقور

 

اسرائيل "دولة" بلا حدود. وباكثر من معنى. فهي دولة لا حدود جغرافية لها. وهي دولة وحكومة لا حدود لهبوطها الاخلاقي والقِيَمي والادبي والحضاري والانساني. هي آخر استعمار وآخراحتلال في العالم.
على الصعيد الجغرافي، معروف ان لجميع دول العالم الاعضاء في الامم المتحدة حدودا شرعية، بموجب قبول الجمعية العمومية للامم المتحدة لعضوية الدولة المعنية، وايداعها خريطة تبين حدودها بدقة. يستثنى من كل دول الارض قاطبة "دولة اسرائيل"، التي لم تودع خريطة تبين حدودها، حتى الآن.
لا يضيرنا هنا التذكير بواقعتين: اولاهما حوار بين دافيد بن غوريون وبنحاس روزين الذي اصبح لاحقا اول وزير للقضاء في اسرائيل. ويسجل المؤرخ الاسرائيلي توم سيغف، في كتابه "1949، الاسرائيليون الاوائل"، مستندا إلى محاضر جلسة عقدت عشية يوم التوقيع على "وثيقة اعلان الاستقلال" الاسرائيلية، يوم 14.5.1948، على النحو التالي:
"روزين: هناك مسألة الحدود وغير ممكن عدم التطرق اليها.
بن غوريون: كل شيء ممكن(!). اذا قررنا نحن هنا ان لا نقول حدوداً فاننا لا نقول ذلك. وليس هناك أي شيء بديهي.
روزين: هذا ليس امراً بديهيا، هذا موضوع قانوني.
بن غوريون: القانون هو شيء يضعه اشخاص". (بمعنى ان بالامكان تغييره وعدم الالتزام به).
اما الواقعة الثانية فتاريخها هو 12.4.1949، ومنقولة من "ارشيف الدولة" تحت عنوان "مشاورات سياسية". يقول بن غوريون في تلك الجلسة: "… فيما يتعلق بترسيم الحدود، فانه ليس للامر نهاية. في التوراة هناك جميع انواع التعريفات لحدود الدولة، وكذلك في تاريخنا. حقيقة انه ليس لهذا الامر نهاية. الحدود ليست امرا مطلقا. اذا كانت الحدود هي الصحراء، فيمكن لها ان تكون الطرف الآخر من الصحراء، وان كانت تلك بحراً، يمكن لها ان تكون ما بعد البحر. هكذا سارت الامور في العالم منذ الأزل. المفاهيم فقط تغيرت. اذا تم اكتشاف طريق للوصول إلى كواكب أُخرى، فانه من الممكن ان يكون كل كوكب الارض غير كافٍ".
من حدود الجغرافيا ننتقل إلى حدود الثقافة والتحضّر. يوم الثلاثاء من الاسبوع الماضي "هاجت" ميري ريغف، وزيرة الثقافة في حكومة بنيامين نتنياهو عندما علمت ان حلقة اليوم التالي في برنامج "جامعة على الهواء" من اذاعة الجيش الاسرائيلي، "غاليه تساهل"، مخصصة لمحاضرة عن شعر وادب شاعر فلسطين الكبير الراحل محمود درويش. اشتاطت الوزيرة غضبا، ونشرت على احدى صفحاتها استنكارا لذلك، إذ كيف لمن يدعو إلى تمجيد آكلي لحوم البشر، (كانيبال)، ان يُمنح منصة في الإعلام الاسرائيلي؟. وهي استندت، (بغباء وسوء نية وطوية)، إلى قول شاعر فلسطين في قصيدته الخالدة، "سجّل انا عربي": انا لا اكره الناس، ولا اسطو على احد، ولكني اذا ما جُعت آكل لحم مغتصبي، حذار حذار من جوعي ومن غضبي"، وكانت هذه القصيدة قد كتبت ونشرت في غمرة التغوّل الاسرائيلي في مصادرة اراضي الفلسطينيين في اسرائيل، ومصادر رزقهم، وتجويعهم، واخضاعهم لشتى اصناف القمع والطغيان، ايام "الحكم العسكري".
ليس لمثل هذه الدونية والانحدار الاخلاقي مثيل، الا في ايام القرون الوسطى المظلمة، وفي بعض مجتمعات تعيش هذه الايام "قرونها الوسطى". وحكومة اسرائيل، وبعض من مجتمعها هذه الايام احداها، ان لم تكن اولاها.
انشاء اسرائيل، بحد ذاته، على حساب حقوق الشعب الفلسطيني في ارضه، وحقه في الحرية وتقرير مصيره، هو غبن وظلم وعدوان. لكن حتى في تلك المرحلة من الظلام والظلامية، كانت في اسرائيل اصوات قوية، وبعض من منطق سليم وتصرف حضاري.
نذكر في هذا السياق، ما اورده الصحافي الاسرائيلي بن كسبيت، في مقاله الاسبوعي يوم الجمعة الماضي، في "معاريف". يقول بن كسبيت: "اريه غولان، المذيع المبدع لبرنامج "يوميات الصباح" في اذاعة اسرائيل افتتح برنامجه صباح امس بمقولة شخصية. قال: "كان يا ما كان، كانت شاعرة فلسطينية اسمها فدوى طوقان. بعد حرب الأيام الستة، عندما دخل جيش الدفاع الاسرائيلي مدينتها نابلس، نشرت قصيدتها: "تنهدات عند النافذة"، وفيها بيت الشعر المرعب، الكانيبالي: "لا يُشبع جوعي الا كَبِد عدوّي". ماذا عمل وزير الدفاع موشي ديان؟ دعا الشاعرة الكارهة والغاضبة إلى بيته في تسهالا. وبعد هذا اللقاء الذي تم يوم 12.10.1968، حسب ما يقول مردخاي بار اون، في كتابه "سيرة حياة موشي ديان"، شرح ديان وجهة نظره إلى اذاعة اسرائيل على النحو التالي: فدوى طوقان الآن هي الشاعرة الوطنية للجمهور العربي الفلسطيني. واعتقد ان علينا محاولة معرفة ما يفكر فيه هذا الجمهور، وما هي مشاعره، ومعرفة ما يمكن له ان يتعايش معه، ومعرفة ما يقاتل ضده. علينا ان ننصت لهم، على امل ان يأتي يوم من الايام ينصتون هم لنا فيه". في تلك الايام كان موشي ديان وزيراً للدفاع، وبهذه الصفة كان هو المسؤول عن اذاعة الجيش، في تلك الايام البعيدة البعيدة".
اما في هذه الايام، فقد استدعى وزير الدفاع الاسرائيلي ليبرمان، مسؤول "اذاعة الجيش" وقال له ما معناه: ان تخصيص حلقة في الاذاعة لشعر وادب محمود درويش، هي كمثل مناقشة المستوى الادبي لكتاب "كفاحي" لأدولف هتلر.
وزير الدفاع الاسرائيلي السابق، بوغي يعالون، سخر من تصرف ليبرمان، وريثه في المنصب، وقال في تعليقه: "يبدو ان ليبرمان لا يريد ان يسمع من اذاعة الجيش، الخاضعة لسلطته، الا "الحقيقة"، أي الـ"برافدا"، باللغة الروسية"، وذلك غمزا من قناة ليبرمان المهاجر لاسرائيل من مولدوفيا السوفياتية.
آخر ما "اتحفنا" به ليبرمان، ، صباح الاثنين الماضي، كان قوله لدفعة من المجندين في إحدى كتائب جيش الاستعمار الاسرائيلي: "الخطأ الأساسي الاستراتيجي هو وصولنا إلى هنا مع سيدنا موسى، الذي اتى بنا إلى الشرق الأوسط. لكن هذا هو نصيبنا…، ويتوجب علينا معالجة ذلك..".. طبعا سيكون لهذه "اللمعة" تداعيات، وستتذكرها وتتندر بها مجموعات كثيرة من الجلادين ومن الضحايا، وستشكل مادة لطرائف ونكات، ولرسومات كاريكاتورية، ترحل بـ "سيدنا موسى" إلى مولدوفا وربما إلى اقاصي سيبيريا والقطب الشمالي، لاحضار ليبرمان إلى "الشرق الاوسط القديم" واحضار شمعون بيرس، مثلا، إلى "الشرق الاوسط الجديد".
لا حدود جغرافية لاسرائيل بن غوريون، الطامع بالصحراء وبالبحر و…بكواكب اخرى.
لا حدود لانحدار اسرائيل ريغف الحضاري والثقافي، التي يُفقدها محمود درويش عقلها.
لا حدود لرعونة اسرائيل ليبرمان، الذي ينسب ما هو (ونحن) فيه إلى النبي موسى.
اخي وصديقي محمود، شكراً لك مقيماً، وشكراً لك راحلاً، ايها الحبيب.

عماد شقور

٭ كاتب فلسطيني