عن الوطن والاحتلال… من منا الغريب أيها الغرباء؟

بقلم: عبد الحميد صيام

أن أكثر ما يوجعك عندما تعود إلى منزلك الذي ولدت وترعرعت فيه عندما يسألك الغرباء لماذا أنت قادم هنا؟ إنه السؤال الصفعة الذي يلقى عليك عند لحظة العبور.
تتلاحق بعده الأسئلة الموجعة كأنها وخز الإبر. كم يوما ستقيم وهل لديك أقارب وهل ستبقى في مناطق يهودا والسامرة أم ستزور إسرائيل أيضا؟ الإجابات يجب أن تكون ذكية كي لا تستفزه فيرسلك إلى غرفة التحقيق المجاورة التي زرتها في السابق مرات عديدة وقد تقضي فيها ساعات وساعات وصلت في إحدى المرات سبع ساعات ونصف الساعة. قلت له وهو يقرأ معلومات عني قدمها له الكمبيوتر بأنني من هنا ومقامي سيكون في بلدتي قرب رام الله التي ولدت فيها وسأزور القدس وحيفا والناصرة فهذه إجازتي السنوية وأنا كاتب وأحب أن أطلع على سير الحياة هنا.
2. تمر التجربة هذه المرة بسرعة بعكس الصيف الماضي، حيث دخلنا غرفة التحقيق لنحو ساعة ونصف الساعة. لكن القلق الحقيقي الذي كان ينتابنا أنا وزوجتي على بنتي الشابة التي ستصل في اليوم التالي. وكما توقعنا أوقفوها أربع ساعات كاملة حيث تقلب أكثر من محقق ليسأل الأسئلة نفسها ويسمع الأجوبة نفسها. كانت معظم الأسئلة تدور حول علاقتها ببرنامج المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات (بي دي إس) الذي بدأ يوجع الكيان المسخ الذي يمثل الطبعة الأقبح من نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. يريدون أن يعرفوا منها عن أنشطة الطلبة في الجامعات ومن هم المسؤولون عن البرنامج وإذا كانت تشارك في النشاطات المتعلقة بالمقاطعة ومن هم الناشطون في المنطقة التي تقيم فيها وإذا ما قدمت أي تبرعات لجماعات المقاطعة. كانت تجيبهم بكل برود وعفوية صادقة مؤكدة لهم أن ليس هناك لديها ما تضيف عما ينشر، فالبرنامج علني وليس سريا و"أنتم تعرفون أكثر مني ولا أعرف إلا ما ينشر عن البرنامج". كانت تستفزه ببرودة أعصابها فقال لها لماذا تتبسمين وأنت في غرفة التحقيق؟ فقالت له "لأنني سعيدة أن أعود لزيارة وطني بعد غياب". ويسألها "لماذا اخترت أن تمري من أثينا وليس مع والديك عن طريق إسطنبول اللذين وصلا قبل يوم؟" قالت لهم إنها تريد أن تحمل معها زوادة كبيرة من الراحة بحيث لا يعود أحد قادرا على استفزازها أو تعكير مزاجها المعدول بعد زيارة قصيرة لجزيرة ميكنوس مع صديقاتها. كتبت على صفحتها في الفيسبوك بعد الخروج مباشرة: "أربع ساعات من التحقيق من قبل رجال الأمن في مطار بن غوريون حول حركة الـ"بي دي إس". هذا يعني أن الحركة وصلت من النجاح إلى الحد الذي يثير قلقهم بهذه الطريقة. تحية لكم – تابعوا جهودكم العظيمة".
3. الأخبار السيئة تصل إلى مسامعك منذ وصول البيت نحو منتصف الليل. في اليوم نفسه، كما روى لنا الأهل والأصدقاء، قام المئات بتشييع جنازة الشهيد الطفل محيي الدين الطباخي في" بلدة الرام" المجاورة لبلدتنا. محيي الدين لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره. كان في طريقه إلى الفرن لشراء الخبز عاجلته طلقة مطاطية مغلفة بالمعدن خرقت القفص الصدري الصغير واستقرت في القلب فأردته شهيدا. جيش الاحتلال كالعادة يبرئ القتله ويضع اللوم على رماة الحجارة الذين كانوا يحتجون قرب حاجز قلندية على استشهاد الشاب أنور السلايمة من البلدة نفسها قبل خمسة أيام حيث أطلقوا عليه النار بحجة أن سيارته كانت مسرعة الساعة الرابعة صباحا وكان في طريقه للعمل والشوارع خالية. يبحثون عن حجة للقتل. شعارهم "أقتل أولا ثم إبحث عن حجة. إن شككت في أمر ما عالجه بالقتل. القتل أولا والتحقيقات أخيرا". الغريب أنه في اليوم نفسه أيضا ذبح الطفل الفلسطيني عبد الله عيسى قرب حلب على يد ما يسمى بالمعارضة السورية التي أجازت لنفسها أن تحز عنق طفل في الثانية عشرة من عمره أيضا بحجة أتفه من تؤخذ على مأخذ الجد، بأنه كان يقاتل مع قوات النظام السوري. لا أعرف ما الفرق بين قاتل الطفل محيي الدين في الرام وقاتل الطفل الفلسطيني عبد الله في حندرات قرب حلب. الدم الفلسطيني يستبيحه الغرباء وأبناء القوم. اختلطت علينا الأمور"بين مستعمر غازٍ ومستعمر وطني"، كما قال شاعر اليمن البردوني.
4. زيارة الوطن المحتل وبشروط الاحتلال تفتح في قلبك ألف جرح دفين وتعزز من قناعاتك أن الاحتلال ما كان ليتجذر بهذه الطريقة الشرسة لولا هشاشة المنظومة العربية بشكل عام والفلسطينية بشكل خاص. في كل مرة تدخل الأرض تزيد قناعة بصوابية موقفك عندما عارضت اتفاقية أوسلو الكارثية. فهناك ظاهرتان تعملان يدا بيد: تجذير الاحتلال من جهة وغياب السلطة الفلسطينية من دائرة الفعل والتأثير على تطورات الأحداث على الأرض من جهة أخرى. لقد استطاعت هذه السلطة بعد سنوات وجودها الاثنتين والعشرين أن تحتوي نضال الشعب العنيد وتبعثره وتحول قطاعات واسعة منه إلى موظفين ينتظرون رواتب آخر الشهر بمساعدة الجنرالات الأجانب والمحليين والدول المانحة والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (يو أس أيدز) وأجهزة التنسيق الأمني. إن ما يجري الآن من مظاهر مقاومة الاحتلال لا تعدو كونها أقرب إلى المحاولات اليائسة التي يقوم بها شباب لا ينتمون إلى أي فصيل ولا يأخذون أوامر من أحد. إنها صرخة ضد القهر صادرة عمن تجرعوا مرارة الاحتلال وإذلالاته المتواصلة حتى طفح بهم الكيل فقرروا وبطريقة شبه عفوية أن يقدموا أرواحهم من دون خطة أو انتظار أي مردود سياسي. لقد استغلت هذه الحوادث الفردية ليوصف نضال الشعب الفلسطيني بالإرهاب ليس من العدو فحسب، بل ومن أمين عام الأمم المتحدة ومبعوثه الخاص في فلسطين المحتلة، نيكولاي ملادينوف، ثم لحقت بهذه الجوقة اللجنة الرباعية المفصلة على المقاس الإسرائيلي تماما. لقد استغلت إسرائيل هذا الغطاء الدولي فسارعت في ابتلاع المزيد من الأرض وتسمين شبكة المستوطنات والطرق الالتفافية بحيث تلغي تماما إمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي التي احتلت عام 1967. فأول ما يصدم الزائر زحف المستوطنات على القرى وخنقها ببطء وحصرها في دوائر مغلقة يمنع تجاوزها. مستوطنات تزحف على أرض القرية من كل الاتجاهات. المتجر المتوسط "شعار بنيامين" الذي افتتح على الطريق الرئيس للقرية قبل ثماني سنوات أصبح منطقة تجارية كبـيرة. ومستوطنة "معاليه مخماس" المبنية على أرض مخماس ودير دبوان أصبحت أقرب إلى المدن الصناعية والزراعية واحتلت روؤس الجبال القريبة وزحفت على سهل "البقعة" الغني وابتلعت نصفه أو يزيد والذي أذكر أنني كنت أذهب مع والدي صغيرا لذلك السهل الجميل لحرث الأرض التي "تفيض لبنا وعسلا". أما مستوطنات كوكب يعقوب وآدم وجفعات زيف فقد طوقت قرى جبع وحزما وعناتا وشعفاط وبيت حنينا وصولا إلى التلة الفرنسية فالشيخ جراح، لتشكل جزءا من حبل المشنقة الذي يلتف حول الأحياء العربية في القدس الشرقية. الحقيقة التي تخلص إليها أن إنشاء دولة الوهم الذي وعدنا بها الأوسلويون، من تقدم منهم ومن تأخر، أصبحت أقرب إلى المستحيل وأن تعميم الوهم ما زال مستمرا تحت ممارسات عبثية لإطالة عمر سلطة تجاوزت صلاحياتها فأصبحت أشبه بالدواء القديم الفاسد الذي قد يضاعف آلاما قديمة أو يخلق أوجاعا جديدة أخرى.

5. في الأيام الأولى لزيارة مسقط الرأس ومرتع الصبا أريد أن أقضي أياما داخل القرية البسيطة وأن أضرب صفحا عن الاحتلال مؤقتا للاستمتاع بجمال الوطن ونسائمه وأهله الطيبين. يتجمع المغتربون من كل أماكن الشتات فيتضاعف عدد سكان البلدة مرتين. لقد تطورت في السنوات الأخيرة ظاهرة اصطحاب المغتربين أطفالهم إلى الوطن خلال إجازة الصيف للتعرف على الأقارب وتعميق معنى الانتماء للهوية الفلسطينية وتحسين التحدث باللغة العربية بلهجة فلسطينية.
تعيش البلدة هذه الأيام موسم العنب والتين. أشجار التين بدأت تستعرض ثمارها العديدة التي تكاد تتفوق على عدد الألوان المعروفة من أبيض وأحمر وأسود وأصفر وأزرق فيتفنن الفلاحون في اختراع أسماء جديدة لأنواع أخرى من التين. منظر الحسبة أو سوق الخضار متعة في حد ذاتها والفلاحون ينغمون أصواتهم وهم يدعون إلى شراء منتوجات الأرض من فواكه وخضار لا حصر لها. نساء يجلسن على الأرض يعرضن كثيرا من الأعشاب التي تمنحها الجبال والوديان والشعاب من زعتر وشومر وشيح ونعناع وبابونج وميرمية وجرجير وسمّاك وكزبرة وريحان وحصى البان. بعضها يستخدم للطعام وبعضها للشراب وقسم منها للدواء. لقد بدأ الفلسطينيون ينتجون كميات من هذه الأعشاب ويصدرونها بأسعار عالية إلى أسواق أوروبا والولايات المتحدة. وقد بدأت المستوطنات اللعينة تسرق الأعشاب البرية وتعيد إنتاجها وبيعها في الأسواق العالمية لقتل المنتوجات الفلسطينية. فهم لا يريدون سرقة الأرض فقط بل ومنتوجاتها الطبيعية وأسماءها كذلك ويدعونها لأنفسهم. ودائما أسائل النفس هل هناك أحد في الدنيا يحب أرضه ويلتصق بها ويدللها مثل الفلاح الفلسطيني؟ وأعود وأسأل: في أي عرف وأي قانون وأي شريعة وأي دين يقال لي لا تستطيع أن تبقى هنا في أرضك إلا بإذن حامل البندقية الإثيوبي أو البلغاري أو المستوطن القبيح القادم من بروكلين محملا بحقد القرون والذي يقرر بأن تدخلها زائرا لمدة ثلاثة شهور فقط باعتبار أنك غريب لو تجاوزتها يوما أو يومين ستحرم من العودة إليها وإلى الأبد، حسب قوانين الدولة المارقة؟ أنظروا إلى سحنتي ولوني وعينيّ وقارنوا بينها وبين لون الأرض لتعرفوا من منا الغريب أيها الغرباء؟

 د. عبد الحميد صيام
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز