خلال الحرب الباردة، التي اجتاحت العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي نجمت عن ظهور قطب عالمي اشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي، في مواجهة القطب الإمبريالي، الذي كان يمثل نظام الاستغلال الطبقي العالمي ويضم الدول الرأسمالية، صوّر الغرب الإمبريالي بقيادة الولايات المتحدة النظام الاشتراكي على أنه نظام شرير، بسبب انعدام الديمقراطية السياسية، التي تعني تعدد الأحزاب السياسية، وانعدام الحريات الشخصية بسبب تقديم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية، وكان في هذا شيء من الحقيقة، بل كان فيه الشيء الكثير من الحقيقة.
ولكن ولأن التاريخ دائماً يكتبه المنتصرون، فإن مساوئ النظام الرأسمالي، خاصة في حقبته الإمبريالية، وما بعد الإمبريالية، لم يعد أحد يعددها، بل لم يعد أحد يجهر بالقول إنه ليس نظاماً قاسياً وحسب، بل إنه صار، بعد الحرب الباردة أشبه بغول عالمي، يطحن الفقراء وعامة الناس، حيث تعمقت الفوارق الطبقية بين الناس، بحيث تحوّل العالم بأسره من عالم يضم عدداً من المليونيرات إلى عالم يتضمن العديد من المليارديرات.
يبدو بأن النظام الاشتراكي كان يشكل كابحاً، يقف في طريق توحش النظام الإمبريالي، الذي انطلق بعد انتصاره في الحرب الباردة، كما لو كان بركاناً يأكل أخضر ويابس الكرة الأرضية، في إطلاق مرعب لكل ما لدى الإنسان من غرائز أنانية منحطة، لذا فإننا لا نبالغ لو قلنا، إن كل ما يشهده العالم _ الآن _ ومنذ أكثر من ثلاثة عقود مضت، من حروب وقتل وجوع وغرق وهجرة ومرض، ومن انتشار للفقر والجهل والجوع، في الهامش والمحيط البشري، بين أكثرية الناس، ومن ترف مقرف، وثراء فاحش، في المركز وبين فئة قليلة من الناس، ما هو إلا نتيجة لانتصار النظام الرأسمالي، وتفكك المنظومة الاشتراكية العالمية.
على الرغم من أن المظهر العام _ بعد الحرب الباردة _ أظهر أن العالم صار أكثر توافقاً وتفاعلاً مع ثورة الاتصالات والتكنولوجيا الحديثة، إلا أن حجم ضحايا النظام العالمي الجديد، الذي سارع على الفور بالدخول بعمق الدول التي كانت تسير على طريق غير رأسمالي، من روسيا، بولندا، إلى كل دول أوروبا الشرقية، كذلك ضحايا الحلقة الثانية من الدخول الرأسمالي العالمي لداخل المجتمعات التي كانت خارجه أو ضمن المعسكر الآخر، ونقصد الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، أي أن حجم ضحايا البوسنة والهرسك، كوسوفو، أفغانستان، العراق، سورية، ليبيا واليمن، ربما يفوق ضحايا الحرب العالمية الأولى، كما أن حجم الدمار مهول لدرجة لا يمكن تصورها.
والحقيقة هي أن أحوال الناس لم تكن أفضل بالتحول عن الاشتراكية وأنظمة حكم الفرد المستبد أو الأنظمة الشمولية، ذلك أن البديل لم يكن دولة رأسمالية مستقلة، ولا اقتصاداً وطنياً، بل تبعية سياسية واقتصادية للغرب، أي أن الغرب سعى لأن يزيد من ثرواته، بفتح تلك المجتمعات، وليس إلى إثرائها، أو حل مشاكلها، أو توفير احتياجاتها.
في تقريره السنوي، يشير مكتب الاستشارات المالية "بوسطن كونسالتينغ غروب" إلى أن نحو 5. 18 مليون شخص، يشكلون أقل من 1% من سكان العالم يملكون 47% من الثروات العالمية الموزعة في المصارف والبورصات، بنحو 78800 مليار دولار، أي أكثر بقليل من نصف الناتج العالمي، وتحتل الولايات المتحدة المركز الأول بنحو 8 مليونيرات فيها، حيث يمتلك مليونيرات أميركا الشمالية نحو 63% من الثروات الشخصية الموجودة في تلك المنطقة.
تمركزت الثروة العالمية، إذاً بعد الحرب الباردة، وفي الوقت الذي لا يتجاوز فيه دخل الفرد في العديد من الدول دولارين في اليوم، نجد الثراء الفاحش لنجوم كرة القدم والغناء والفن، حيث تجاوزت صفقات انتقال اللاعبين حاجز المائة مليون دولار، فيما بلغت تذكرة حفل "أديل" 24 ألف يورو، أما أحلام فتضع على صدرها ماساً يتجاوز المليون دولار، فيما بلغت تكلفة أولمبياد ريو 12 مليار دولار، أما مؤسس "فيسبوك" فقد ربح في ساعة واحدة 3 مليارات وأربعمائة مليون دولار، ويقال إنه يربح في الثانية مليون دولار، وإنه يربح بالدقيقة ما يكفي لعيش مليون عائلة طوال أسبوع!
عالم ما بعد الحرب الباردة، صار عالماً مرعباً بكل معنى الكلمة بالنسبة لمعظم سكان الكرة الأرضية الذين تجاوزوا السبعة مليارات إنسان، بحيث تتحكم أميركا باقتصاد العالم من خلال طباعة الورق على أنه عملة "دولارات"، وهكذا يجد الناس أنفسهم يكدون ليل نهار، فيما "طابع" العملة، يضحك من عل!
الشواهد كثيرة، على "انقلاب" الأحوال، وفي الشرق الأوسط، لم تعد إسرائيل دولة مقبولة أو طبيعية وحسب، ولكن لم يعد أحد يطالب بتحرير فلسطين من أسوأ احتلال عرفته البشرية، بل إن أحصنة طروادة الأميركية في المنطقة العربية، صارت هي من يتحكم بمفاتيح المنطقة، بحيث حل مثلث الخليج (قطر / السعودية / الإمارات) كبديل عن مثلث العروبة (العراق / سورية / مصر).
وبعد أن كانت العراق ومصر وسورية، تجتهد في الحصول على مصادر القوة العسكرية والتصنيع، يتبارى مثلث الغرب الخليجي في ترويج الثقافة الأميركية، فهو يتنافس على تفكيك دول المركز العروبي، في الوقت الذي يتبارى فيه بعدد المحطات الفضائية الرياضية، وعدد الملاعب، حيث تصرف مئات المليارات على كرة القدم، وعلى نفخ بالونات السذاجة الحداثية، كما في دبي، فيما التصنيع والقوة، كذلك الاهتمام بالتنمية في العالم العربي، فضلاً عن المساواة، أو حل مشاكل الفقر في السودان، موريتانيا، غزة، لا يثير في "أكلة" أعصاب وحقوق البشر شيئاً من عاطفة أو شعور بالإخوة أو المساواة البشرية!
رجب أبو سرية
2016-08-02
[email protected]