ليس دفاعا عن محمود درويش… ولكن إنصاف للحقيقة

بقلم: فايز رشيد

ما كادت مقالتي تظهر على صفحات "القدس العربي " حتى وصلتني رسائل كثيرة من أصدقاء عزيزين قاسمها المشترك: التشكيك بمواقف محمود درويش شاعرا وإنسانا وطنيا! إن "بحرصه" على استعمال الرموز التوراتية في شعره ، أو في مواقفه السياسية وقبوله بالتعايش مع الكيان الصهيوني، وصولا إلى عضويته في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. حتى أن أحد التعليقات في "القدس العربي" ذكر أن شارون ونتنياهو وقادة العدو طالما صفقوا له، مع محبي درويش، باعتباره شاعرا لا ثوريا ولا وطنيا!. بالفعل وجدتني مضطرا في الأيام القليلة الماضية إلى مراجعة غالبية ما كُتب عن هذه القامة الفلسطينية العربية الكبيرة، سفير الشعر الفلسطيني والعربي إلى العالمية، رجل المهمات الصعبة في الشعر الفلسطيني والعربي إلى العالم. لذا أخصص مقالتي هذه عن مبدعنا الكبير الراحل محمود درويش راجيا من قرائي الأعزاء اعتبارها الأخيرة، لا إهمالا لوجهة نظر أخرى، ولا انتقاصا من الراحل بالقدر الذي في كل أسبوع أكون أمام مواضيع سياسية كثيرة أخرى.
السياسة تفرض ذاتها على كل مناحي الحياة المختلفة، بالتالي وفي الموضوع المحدد لا يمكن للأديب أو المثقف أن يبتعد عن السياسة حتى لو أراد ذلك. إنّ إنجازعملية التغيير لا تعتمد في تحقيقها واقعا على السياسيين فقط، وإنما على كل فئات الشعب، ومن بين صفوفه المثقفون والأدباء، باعتبارهم الأداة المهيأة المؤسسة لعملية التغيير المجتمعي بداية، على طريق التغيير السياسي. ذلك ان المثقف النهضوي الأصيل ومن خلال قراءة الواقع بكل أبعاده السياسية والأخرى الاقتصادية والاجتماعية والبنيوية.. يصاب بحالة من الانفصام بين الحقيقة والشكل المُتصوّر أو المُتخيّل في الذهن لما يتوجب أن يكون عليه هذا الواقع، هذا في الوقت الذي تقتضي فيه عملية التغيير المأمولة دقة استعراضه كأساس راهن ومستقبلي لا بد من الاستناد إليه.. إلى كل عناصره الإيجابية الكامنة في الذهنية الجماهيرية والتي يمكن مخاطبتها على طريق محاولة استنهاضها، وذلك من أجل ترسيخ الوعي الوطني والقومي كعامل أساسي وشرط رئيسي لانجاح التغيير. وفي السؤال عن مدى تحقيق شعر محمود درويش لهذه المهمة؟ أراه قد حققه وزملاؤه من شعراء المقاومة الفلسطينية بامتياز، إن في الحفاظ على الهوية الفلسطينية كهوية وطنية نضالية ضد كل محاولة التهويد والأسرلة التي حرص عليها الكيان الصهيوني منذ إنشاء دولته.
الهوية الفلسطينية جاءت في إطارها الصحيح من خلال تأكيد الانتماء للأمة العربية ونقد النظام الرسمي العربي على تقصيراته، لطالما تحدث الفلاسفة والمفكرون عن تعريفات وأدوار شتى للمثقف والأديب، ومن بينهم ابن خلدون الذي أطنب في استخدام مفاهيم مثل (اصحاب القلم) و(الفقهاء) و(العلماء) والذي أفرد فصلا كاملا من مقدمته ، أكد فيها: أن العلماء من بين البشر، هم أبعد ما يكونون عن السياسة ومذاهبها. ولعل من أقرب التعريفات إلى الواقع ما ذكره "غرامشي" في تعريفه لمعنى الأديب المثقف، منطلقا مما هو خاص بنمط الإنتاج، لذا يراه غرامشي من خلال وجوده الاجتماعي… وإذ ذاك فإن نقل الثقافة من عالم الأفكار واهتمامات ذوي الاختصاص إلى عالم الصراع الاجتماعي، هو الذي يعيد صياغة المثقف عند المفكر الإيطالي. غرامشي لا يرى المثقف إلا في وظيفته النضالية، التي تجعل من الممارسة لحظة داخلية في مجمل عملية التغيير وهكذا دواليك. ووفقا لجمال الدين الأفغاني فإن دور المثقف يتمثل في التأمل في الحاضر من أجل تفسير النبل الإنساني وإضاءة الطريق لأبناء أمته، على قاعدة التمتع بالروح النقدية، واستخدامها في مراجعة الماضي.
محمود درويش مثّل هذه القضية أيضا بامتياز كبير. الرموز في الشعر العربي جاءت منذ القدم، ومثلت مصدرا في جمالية التعبير من جهة، وفي عمق الاندهاش لدى المتلقي. فمثلاعندما يستعير درويش الحمامة كرمز شعري، فإنه تناول الرمز السلامي للتعبير عن السلام المفقود لشعبه ووطنه المحتل. يوظف درويش الأسطورة، والحقيقة التاريخية (العنقاء، يوليسيز، النبي يوسف وإخوته، جميل بثينة، مجنون ليلى، أنكيدو وغيرها في تأكيده للحب الأسطوري لبلده، لأرضه ولوطنه وحبيبته). خذ مثلا قصائد دواوينه (أحد عشر كوكبا"، "سرير الغريبة"، "لماذا تركت الحصان وحيدا"، الجدارية وغيرها…هي تأكيد لحبه الأسطوري للوطن الفلسطيني المحتل والمرهق بالمعاناة. يقول في مطلع قصيدته "بيروت" مثلا: تفاحة للبحر، نرجسة الرخام، فراشة فجرية، بيروت، شكل الروح في المرأة، بيروت خيمتنا ..الخ. قصيدة مليئة بالتعابير الجميلة فعلا.
وبالنسبة للرموز التوراتية كان محمود درويش في مطلع شبابه ( كما ذكر في إحدى مقابلاته) خاضعا للمنهاج الدراسي الصهيوني، الذي يعلّم الطلاب أسفار العهد القديم. لقد صرح محمود في إحدى مقابلاته "أنه اعتبر التوراة نصا أدبيا وليس نصا دينيا أو تاريخيا .بالفعل لقد وظف الرموز التوراتية في مجموعته الشعرية "عاشق من فلسطين" في قصيدته "أبي" حيث يقول: في حوار مع العذاب..كان أيوب يشكر..خالق الدود والسحاب". أنا أفهم هذا الاستعمال على أنه يدعو إلى الصبر، رغم التعذيب والمعاناة، واحتمال ما لا يحتمل، مثل شعبنا الفلسطيني الذي لو جرى توزيع معاناته على كل شعوب العالم لنال مطلق إنسان على هذه الأرض الشيء الكبير. تعامل الشاعر مع الرموز التوراتية الأخرى: إرميا الثاني، إشعيا الثاني، حيث يقول في قصيدة بيروت: أنادي أشعيا.. أخرجْ من الكتب القديمة مثلما خرجوا.. أزقة أورشليم تعلّق اللحم الفلسطيني فوق مطالع العهد القديم.. وتدّعي أن الضحية لم تغير جلدها… يا أشعيا لا ترثِ..بل أهجُ المدينة كي أحبك مرتين.
يعقد الشاعر هنا مقارنة بين سقوط أورشليم ( لا يعني هذا اعتراف الشاعر بالتاريخ اليهودي للقدس، مع العلم أن علماء التاريخ بمن فيهم اليهود مثل آرثر كوستلر يؤكدون أن لا علاقة لليهود الحاليين باليهود القدماء) وبين حصار بيروت، ففي كلا الحالتين دفع الفلسطيني الثمن، لهذا يدعو محمود النبي إشعيا أن لا يرثي أورشليم كما فعل في سفره بل يدعوه إلى أن يهجو أورشليم الآثمة (حسب أشعيا) التي تسببت بإثمها بتعليق اللحم الفلسطيني مرتين، مرة في زمن أشعيا ومرة في حصار جيش الاحتلال لبيروت في زمن محمود. كذلك يتعامل الشاعر مع مزامير داود، والسبي البابلي، وأرض كنعان.. فالمزامير صارت حجارة .. رموني بها.. وأعادوا اغتيالي… نعم لقد وظفت الصهيونية التاريخ اليهودي لتسويغ أحقية اليهود في فلسطين، ولتسويغ مذابحهم. هذه القضية مستمرة وتتطور حتى يومنا هذا، فالحاخامات يفتون بجواز اغتصاب النساء العربيات لأنهن نساء عدو، كما يجوز قتل العرب بمن فيهم الأطفال في أرحام أمهاتهم لمجرد الشك في أنهم قد يؤذون اليهود.
استعمل محمود درويش أيضا الرموز العربية، الإسلامية، حضارة العراق والحضارة المصرية في أشعاره. وأدرك أن مقــــالة قصـــيرة لن تفي بالشـــرح الوافر لتفكيك الرموز في شعر درويــــش فهي بحاجة إلى بحث طويل. جدير بالذكر أيضا أن محمود درويش صارع المشروع التزويري الصهــــيوني على ذاكرة المكان، كعامل أساسي في مجابهـــته، فمثلا في قصيدة ربّ الأيائل يا أبي ربّها، من مجمـــوعة "أريد ما أريد" يقول منفايَ أرضُ.. أرضٌ من الشهوات.. كنعانيةٌ.. ترى الأيائل والوعولْ… لو كنتَ من حجر لكان الطقسُ آخر.. يا ابن كنعان القديم.. لكنهم كتبوا عليكَ نشيدهم لتكون أنت هو الوحيد… سرقَ المؤرخ، يا أبي لغتي وسوسنتي وأقصاني عن الوعد الإلهي .. وبكى المؤرخ عندما واجهته بعظام أسلافي… فانهض يا أبي من بين أنقاض الهياكل واكتبْ اسمكَ فوق خاتمها… كما كتب الأوائل يا أبي أسماءهم.
يبقى القول أن محمود درويش انتخب عضوا في اللجنة التنفيذية للمنظمة عام 1988 واستقال من عضويتها عام 1993حتجاجا على اتفاقيات أوسلو. وعلى ذمة الأستاذ عبدالباري عطوان ( وهو حيّ يرزق)، وفي محاضرته عن محمود درويش في العاصمة الأردنية، قبل بضعة أعوام، فإن رئاسة المنظمة قطعت راتبه عنه. ثم التساؤلات الأخيرة: لماذا هذا الانزعاج الصهيوني من أشعار محمود درويش؟ هل هي مسرحية؟ لماذا نوقشت قصيدته "عابرون في كلام عابر" مرتين في الكنيست؟ أختم، بأنني وفي كل ما قلته عن محمود درويش في مقالتي السابقة، يمثل وجهة نظري في هذه القامة الأدبية الفلسطينية العملاقة.

د. فايز رشيد

كاتب فلسطيني