فرحة عارمة تملأ قلب من نجح وتفوق في التوجيهي، تمتد الفرحة إلى الأب والأم وسائر الأسرة والأقارب والأصدقاء, وتقام الحفلات الرسمية و الشعبية أو العائلية على شرف الناجح أو المتفوق، وتبدأ عملية التسجيل في الجامعات للطلبة ولأن كثيرا من أبناء شعبنا الفلسطيني من الطبقة دون المتوسطة ولأن في الجامعة أخ أو أخت وصلوا هناك قبل القادم الجديد, تبدأ عملية البحث عن القروض والمساعدات من شتى أبوابها ويكابد رب الأسرة المشقة ويصبر ويصابر على ضنك العيش كي ينهي ابنه أو ابنته دراستهم الجامعية, ولا بأس من الديون والتعب فهذا استثمار في محله أو هكذا يبدو!
ولكن الأصعب قادم فمع انتهاء حفلات التخرج وما فيها من بث الأمل في النفوس عبر الخطابات
والتهنئة, تبدأ الحقائق تظهر جليا عند البحث عن فرصة عمل في القطاع العام أو الخاص؟ فالشواغر شحيحة, والعروض قليلة، وطلب الخبرة لمدة لا تقل عن 3 أو 5 سنوات شرط في وظائف محدودة لبعض الشركات والمؤسسات, والأسرة غارقة في الديون التي تراكمت أثناء رحلة التعليم الطويلة !
ولم يعد طابور البطالة وانتظار فرص العمل التي تتأخر سنوات مقتصرا على حملة البكالوريوس بل امتد الطابور وضم حملة الماجستير وعددا من حملة الدكتوراه وأينما التفت وجدت من يحضر أطروحة ماجستير أو من أنهى المناقشة؛ أما نوعية التخصصات وارتباطها بحاجة سوق العمل فحدث ولا حرج؛ فيفترض مثلا ألا نحتاج الى العلاج في الخارج ولدينا هذا العدد ممن يدرسون الطب.
أما الثقافة العامة, فرغم انتشار وسائل الإعلام الحديثة وتطور تكنولوجيا المعلومات تجد ضحالة عند عدد من حملة الشهادات بل الأنكى والأدهى والأمر أن عددا من هؤلاء لا يحسنون كتابة بعض الكلمات كثيرة الأستعمال... ويقاس عليهم خطيب مسجد تخرج من الجامعة, يرفع المنصوب ويجزم المرفوع وهكذا.
وربما للمرة الثانية بعض النقابات تنشر نصائح أو توضيحات لطلبة التوجيهي الراغبين في دراسة التخصصات التي تمثل مختصيها، لأن الصورة باتت واضحة فمع تزايد عدد السكان, وانتشار ثقافة الحصول على شهادة جامعية, صار لدينا فائض في العديد من التخصصات, وهذا يعني زيادة في عدد العاطلين عن العمل ممن هم في ذروة الطاقة للعمل والإنتاج.
وعلى الشاب الخريج أن يصبر على نزوعه الفطري للزواج وبناء أسرة إلى ما شاء الله, فالزواج بحاجة إلى تكاليف باهظة لا تقتصر على المهر وملحقاته فهذه ربما مقدور عليها ولكن عليه أن يمتلك بيتا أو أن يستأجر ومن أين يأتي بالأولى أو الثانية؟
الأجيال السابقة كان الواحد منهم ينهي ما يسمى (المترك) وكان له مرحلتين هما بعد نهاية الصف السادس وبعد نهاية الصف الثالث الإعدادي (التاسع حاليا) فيكون بهذا مؤهلا للعمل في التدريس خاصة في دول الخليج التي كان عدد المتعلمين فيها قليلا جدا وكانت في بداية بناء مؤسسات الدولة أما من كان ينهي التوجيهي فمن السهولة أن يقدم على طلب وظيفة معلم فيحصل عليها بسهولة ومن الشخصيات التي عملت في التدريس بشهادة التوجيهي الشيخ أحمد ياسين - رحمه الله- إبان الإدارة المصرية لقطاع غزة, وهناك من كانوا يحصلون على الدبلوم فتكون فرصتهم في التوظيف أكبر, أما الحاملون قبل نصف قرن لشهادة البكالوريوس فكان وضعهم وفرص العمل لديهم أفضل من أقرانهم من حملة الدكتوراه حاليا.
وكانت الحياة بسيطة والمصروفات ليست بالصورة التي هي عليها حاليا, ومن يريد الدراسة في جامعات الوطن المحتل قبل 35 سنة فإنه يجد الرسوم شبه رمزية, ويجد دعما واسنادا متعدد المصادر.
ومن كان يتجه الى اكمال تعليمه في الخارج, خاصة أن كثيرا من التخصصات لم تكن متوفرة هنا كان يجد منحة بسهولة ويسر من منظمة التحرير, أو كان يتجه الى دول الكتلة الشرقية ( الاتحاد السوفياتي وشرق أوروبا ) ويكون قادرا على الدراسة بمبلغ زهيد, وكانت معظم الدول العربية الدراسة فهيا شبه مجانية مثل سورية والعراق والجزائر, وبعد التخرج فإن فرص العمل في الخليج متوفرة ... أما من كانوا يتجهون الى بعض الدول الغربية مثل ألمانيا فقد كان من السهولة ان يعمل الواحد منهم ويدرس في آن معا, وفرصة العمل بعد التخرج مضمونة 100 % .
تلك مراحل زمنية بحلوها ومرها قد مرت وانتهت, ولكن العقلية التي ينظر بها الى العملية التعليمية ما زالت على حالها.
ولفترة من الزمن كان التعليم والحرص على الحصول على شهادة من معالم الوطنية والتشبث بالأرض ومقاومة استراتيجية الاحتلال الذي كان يسره أن يرانا شعبا من الجهلة والأميين, عبر سياسات نعرفها وعايشناها, بل ينسب قول الى أحد قادة الصهاينة مفاده بأن الشعب الفلسطيني سيهزم الحركة الصهيونية في غرف النوم أي بإنجاب أطفال يغيرون الواقع الديموغرافي, وفي غرف الدرس أي بالتعليم...ولكن الواقع الآن بحاجة الى إعادة نظر شاملة، فما فائدة أن نصبح كتلة بشرية كبيرة وتفريخ حملة شهادات فيما كثير من كثير من الشباب يسعون للحصول على تصريح للعمل داخل الكيان, بل بعضهم وبسبب الفقر والبطالة يذهبون تهريبا ويخاطرون بحياتهم، وحالمون وساعون للهجرة نسبتهم في ازدياد، وما الفائدة من أن لدينا كليات طب وأطباء يزاولون المهنة، ونعجز عن علاج كثير من الحالات المرضية فنرسلها إلى هداسا أو رامبام أو تل هشومير ؟
العملية التعليمية من الألف الى الياء تحتاج الى اعادة نظر وتنظيم يبدأ بتغيير تفكيرنا وثقافتنا وطريقة تخطيط حياتنا وأعلم أن مقالة مني أو من غيري لن تغير-وحدها- سلوكا وثقافة ووضعا قائما ولكن آمل أن تكون بداية جهد في هذا الاتجاه, وبمشيئة الله سيكون لي مقالات أخرى حول الموضوع مع العمل على تأسيس ثقافة تعليمية جديدة تقوم على التركيز على النوع لا الكم , وقبل ذلك على مصارحة شاملة بيننا رسميا وشعبيا وعائليا وشخصيا تقر أن ما يجري من ضخ حملة الشهادات بالجملة أمر ليس جيدا وضرره أكثر من نفعه !
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الخميس 1 ذي القعدة 1437هـ ، 4/8/2016م
من قلم:سري عبد الفتاح سمّور(أبو نصر الدين)-جنين-أم الشوف/حيفا-فلسطين