الاستغوال أبشع مراحل الامبريالية (17)

بقلم: عدنان الصباح

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء ما سمي بالحرب الباردة أصيب مفكري اليسار بصدمة الموت إلى حد الصمت بما يشبه صمت القبور بينما انطلق مفكرو الامبريالية بكل تجلياتها الديمقراطية والليبرالية والعلمانية الحديثة ليقدموا رؤاهم وتصوراتهم وتنبؤاتهم عن الغد كما يعتقدون وظهر الكثير منهم في هذه الصورة أو تلك وكان من أبرزهم فرانسيس فوكوياما في كتابة " نهاية التاريخ والإنسان الأخير " والذي سعى فيه إلى تقديم الولايات المتحدة كسيدة للكون بلا منازع ولذا يقول في كتابه (انه ليست هناك أيديولوجية ما يمكن أن تحل محل التحدي الديمقراطي التقدمي, فالملكية بأشكالها المتعددة قد اضمحلت على نطاق واسع مع بدايات القرن العشرين، والفاشية والشيوعية لم يصدقا في طرحهما السياسي والاقتصادي والاجتماعي( والتحدي الديمقراطي الذي يراه هنا كمطلق لا يمكن لأحد الانتصار عليه هي الديمقراطية بالصيغة الأمريكية ولذا فهو يصف الليبرالية بقوله " إن الليبرالية السياسية هي قاعدة قانونية تعترف بحريات وحقوق معينة للأفراد غير خاضعة لسيطرة الحكومة مثل الحقوق المدنية وهي تعني تحرير شخص المواطن وممتلكاته من سيطرة الحكومة والحقوق الدينية وهي تعني السماح بحرية التعبير عن الآراء الدينية وممارسة العبادة والحقوق السياسية وهي تعني تحرير المواطن من سيطرة الحكومة في الأمور التي لا يبدو بوضوح أنها تؤثر في صالح المجتمع كله تأثيراً يحتم تدخل الدولة .. وتتضمن هذه الأخيرة حرية الصحافة باعتبارها حقاً أساسيا " هكذا وبكل بساطة يقدم فوكوياما الليبرالية السياسية على أنها أيضا ليبرالية اقتصادية تطلق للمواطن – محض مواطن – كل الحريات بما في ذلك الحرية بالممتلكات دون أن يتقدم مليمتر واحد من الاستغوال الرأسمالي والاحتكار البشع الذي تمارسه الشركات العملاقة متعددة الأغراض والتي توصد الأبواب على مصراعيها أمام بسطاء الناس عن القدرة على الاستقلال وتحول الناس كل الناس إلى مجرد أسنان في ماكينة صناعتهم لا أكثر ولا اقل والديمقراطية برأي فوكوياما " إن الديمقراطية تعني الحق المعترف به من الجميع لكافة المواطنين في ان يكون لهم نصيب في السلطة السياسية .. أي حق كافة المواطنين في الاقتراع والمشاركة في النشاط السياسي " وأين هو الحق الاقتصادي إذا كانت كل الحقوق متاحة أم أن الديمقراطية الأمريكية تستثني كليا الحق الاقتصادي فأنت متاح لك الانتخاب ومتاح لك تكوين أسرة ولكن يستحيل أن يتاح لك منافسة عمالقة السوق ومحتكري السلع بكل أنواعها حتى وان أتيح للبعض اللعب على هوامش الفعل الاقتصادي المركزي بخدماته واكسسواراته الضرورية في كثير من الحالات والأحيان مما يجعل الرأسمالية تبدو قادرة على ذر الرماد بالعيون والتحدث عن تكافؤ الفرص بهذه الحالة المنعزلة أو تلك وباستغباء متواصل يسعى فوكوياما إلى تغييب العامل الاقتصادي ويحول التاريخ إلى مسيرة فعل سياسي في الهواء وفي أحسن الحالات فعل اجتماعي فيقول " إن المحور الرئيسي للتاريخ هو نمو الحرية .. فليس التاريخ سلسلة عمياء من الأحداث .. وإنما هو كلٌ ذو مغزى نمت فيه أفكار البشرية حول طبيعة النظام السياسي والاجتماعي العادي ومضى بها إلى غايتها.. وان كنا اليوم قد بلغنا مرحلة لا نستطيع معها أن نتخيل عالماً شديد الاختلاف عن عالمنا.. أو طريقة ظاهرة وواضحة يصبح المستقبل بها أفضل بكثير مما نحن فيه.. فعلينا أيضاً أن نأخذ بعين الاعتبار احتمال أن يكون التاريخ قد بلغ نهايته " وهو يرى أن التاريخ قد توقف عند أمثولته الامبريالية ولا مجال للتقدم إلى الأمام فكل ما كان من الممكن أن يحدث حدث وكل صيرورة منتظرة صارت حقيقة قائمة وبالتالي فان أصحاب النظرة الأحادية جميعا متفقون فلا صيرورة بعد صيرورتهم وصيرورة الليبرالية او الديمقراطية الأمريكية هي الصيرورة الأخيرة في الفعل البشري ككل برأي فوكوياما.
في أحسن حالاته في ان فوكوياما يعيدنا بغباء شديد الى الفرويدية بشكل آخر فبدل اللذة جاءت الرغبة وكما بدأت الفكرة لدى أرسطو بقوله " عندما توجد اللذة والألم فلا بد من وجود الرغبة ، والرغبة تدفع إلى اللذة .." ويقول فرويد ان جميع الناس يسعون الى السعادة الدائمة وهم في سبيل ذلك يسعون الى " من جهة تجنب الألم وتحاشي الأذى ومن الجهة الثانية نشدان المتع والملذات العارمة وليس غريبا إذن ان يأتي فوكوياما من نفس مدرسة أرسطو وابيقور وفرويد أخيرا ليقول " في طبيعة الإنسان 3 أسباب رئيسية للنزاعات : أولها التنافس وثانيها فقدان الثقة وثالثها المجد .. وقد تدفع الرغبة في المجد الناس الى الغزو بسبب تفاهات ككلمة قيلت او ابتسامة او رأي مخالف .. او أية إشارة تحمل في طياتها الاحتقار إما للأفراد أنفسهم .. او لأولادهم و أقربائهم او لأصدقائهم او لامتهم او لاسمهم " ويجب الملاحظة هنا ان كل الصراعات التي يتحدث عنها سيد المثالية الجديد لا تمت للواقعية المادية ولا لحياة المجتمع وفعله الاقتصادي بصلة وكأني به يريد لكل الناس ان يغيبوا في مثالياتهم وصراعاتهم الوهمية السخيفة عن الاحتقار والكلمات بعيدا عن الثروة وناهبيها وان يغرقوا في قراءة الذات والابحار في الظاهراتية الواضحة عن الذات كعمق ومعرفة أصيلة والظاهراتية المختبئة عن الآخرين خلف حقائق لا نعرفها.
الوجودية إذن تدفع بك الى الانطواء والى قبول ما ترى بذاتك لأنك تعرف ما ترى وعدم الانتهاء بقبول ما ترى بغيرك بما في ذلك من ظواهر لأنك لا تعرف حقيقة ما ترى, فلتبق إذن منحصرا بقراءة الذات والتفكير بها واستخدام أدوات العقل لتفسير ظواهر فعلك أنت لإدراك طبيعة هذه الظواهر وخلفياتها ومصادرها ومن أين أتت وكيف تشكلت ظواهرها لديك أما الظواهر لدى الآخرين الأفراد والآخرين المجتمع بما في ذلك ما قد ينشأ عن أدائهم من ظواهر مادية اجتماعية او اقتصادية او سياسية بما في ذلك السياسة العنيفة - الحرب – فأنت لا يمكنك معرفة حقيقتها فلا تنشغل بها وهي هنا إبعاد للذات الفردية عن الفعل او إغراق للذات بالأنا السفلى والمحصورة, إغراق بأنا دونية صغيرة مغلقة انفعالية, وترك الآخر أيا كان وخصوصا الآخر الغير أو الآخر الفاعل والذي قد يكون المحتل او السيد او المستغل او القاتل متحررا منك ومن حضورك واستعدادك للتغيير بالفعل الآتي من طرفه وكأنه لا يعنيك وهو ما يجعل البعض يرى ان الفلسفة الوجودية خادمة أمينة للرأسمال لأنها تؤسس لدى الأفراد الفكر الأخطر – ما دام راسي سالم – وهو ما يجعل الرأسمالية العنيفة تعطيك سلامة راسك ما دمت غارقا في ذاتك وتستيقظ كل أدواتها ضدك ان أنت أردت ان تقترب من حدودها.
هذا هو مسار الوجودية إذن والقائم على القول أيها الإنسان ابق هناك بعيدا عن فعل أسياد العصر والمنشغلين بك وبغيرك ويكفيك ما لديك من هموم وآلام ومعاناة لتنشغل بها ودع الحال العام لأصحابه وان أنت رايتهم يفعلون الخطأ فليس بالضرورة ان ما تراه صحيح بل العكس من ذلك فان المسبب لما تراه وهو ما لا تعرفه هو الحقيقة ولأنك لا تعرفه ولا يهمك ان تعرفه لأنه ليس الأنا المحدودة بآلامك الذاتية او فرحك الذاتي فابتعد عنه ودعه لأصحابه وحتى في الثقافة العربية نجد هؤلاء الوجوديين دعاة الذات المغلقة على الأنا من حملة شعار, دع الخلق للخالق والملك للمالك وانشغل فقط بإصلاح حالك, ومادام راسي سال, سلطان من لا يعرف السلطان, عند اختلاف الدول امسك راسك بين يديك, ومن الأمثلة على ذلك المتصوف الهندي أوشو الذي يقول " اجعل الصلاة دربك. كن شكورا بكل الطرق الممكنة، لا تتذمر أبدا، وأسقِط العقل الساخط فالمسألة فقط، قضية قرار, وما إن تقرِّر أن تُسقِط التذمر حتى تبدأ في إسقاط العادة القديمة. وينبغي، أيضًا، إسقاط حواجز الجسد. فنحن متماهون كثيرًا مع أجسادنا، نعتقد أننا أجساد، ونحن لسنا كذلك. هذه هي الفكرة الزائفة الأولى التي ينبغي إسقاطُها. هذه الفكرة الزائفة تولِّد أفكارًا زائفة أخرى. إذا كان الواحد منا متماهيًا مع الجسد فإنه سوف يكون خائفًا من الشيخوخة، المرض، الموت. هذا الخوف يخلق من هذا التماهي الالتصاق بالجسد. أنت الذي يدرك هذا الجسد، وأنت لست العقل أيضًا " وهذا ما تريده فلسفة ترك الملك للمالك وبالتأكيد هم هنا لا يقصدون الله بل مالك مصانع الأسلحة وأدوات الموت قبل مالك مزارع القمح فعليك إذن ان تجوع وتمرض ولا تقلق لجسدك وإلا لكنت استفقت لناهبي قوتك وقاتليك فالجسد الحي نتركه لهم ليتمتع بموتنا وجوعنا وعينا نحن الفقراء ان نتقن جيدا التمتع بآلامنا إذن وسأورد هنا بعضا من أقوال جلال الرومي لنرى كيف يدعونا حتى ان نقبل الظلمة فهو يقول " فلا يصح أ، يحرم فرعون بالكلية من عناية الله, فربما يكون للرب عناية خفية وكأن الخير مقصدا له في جعله ملعونا " وفي مقام آخر يقول الرومي " يفر الناس من التتار ونحن نعبد خالق التتار " وقال أيضا " لا تتحدث كثيرا عن التتار , تحدث عن نافجة المسك لدى التتار " وهنا يمكنكم أن تروا ماذا يريد منا جلال الرومي ان ننتبه الى حاضنة المسك لدى التتار لا الى أفعالهم البشعة وجرائمهم والخراب الذي صنعوه وأما شمس التبريزي فيرى ان كل مشاكل العالم أخطاء لغوية فيقول بكل بساطة " تنبع مُعظم مشاكل العالم من أخطاء لغوية ومن سوء فهم بسيط. لا تأخذ الكلمات بمعناها الظاهري مُطلقا وعندما تلج دائرة الحب تكون اللغة التي نعرفها قد عفى عليها الزمن " وبالتالي فالامبريالية وجرائمها قد تكون أيضا أخطاء لغوية, أما القديسة تريزا الأفيلية فتقول " عندما تصلّي من أجل الذين هم في حالة الخطيئة المميتة، فهذه أعظم صدقة ! بجاه محبّة الله، أذكر هؤلاء الأشخاص في صلاتكَ " فلنصلي إذن لسارقي قوت الشعوب لعل الله يعيدهم الى صوابهم ويرضى عنهم وكفى وهنا أيضا نجد أصحاب الفلسفة العبثية يحاولون أيضا الذهاب بنا بعيدا عن الواقع فيقول البير كامو مثلا داعيا الكل للانشغال بذاته الفردية بعيدا عن الواقع الذي يعيشه وعن الآخرين الذين يؤثرون بحياته قسرا وحتى بدون إرادته " تعرفون اسمي ولكن ﻻ تعرفون قصتي .. تعرفون ما فعلت لكن ﻻ تعرفون الظروف التي مررت بها .. لذلك توقفوا عن الحكم علي وانشغلوا بأنفسكم " ومع ذلك فلقد تكلم البير كامو كثيرا عن الحرية ولكنه تركها معلقة بالهواء ومرتبطة بفردية الإنسان لذاته وهؤلاء جميعا وجدوا في غياب او انكسار الفلسفة الواقعية بوابة واسعة ليلجون بها الى عقول الناس وحياتهم محاولين عزلهم عن دائرة القدرة على صناعة الذات الجماعية ومعايشتها وبالتالي صياغة وجودها فعلا حيا قادرا على وقف القتلة واللصوص المتخفين خلف شعارات وفلسفة المتسترين عليهم من ما أسموهم بالمبدعين من فلاسفة وأدباء وفنانين وإعلاميين وغيرهم وهو ما يسهل على الامبريالية قدرتها على التخفي وهي تستغول خلف أغطية جميلة يسوقها لها منظري التسويق الامبريالي وفي مقدمتهم فلاسفتها.

بقلم
عدنان الصباح