الاستغوال أبشع مراحل الامبريالية (18)

بقلم: عدنان الصباح

تعتبر سوريا واحدة من أهم مراكز الحضارة الإنسانية منذ فجر التاريخ ويمكن القول أن سوريا هي المركز الأول لنشوء المدن والاستيطان البشري على الأرض ويعود تاريخ البشرية هناك إلى ما قبل الميلاد بزمن طويل وهي لذلك ظلت مركزا مهما للحضارة الإنسانية وحولها ظهرت سائر التجمعات والحضارات الإنسانية مما وفر لها حق القيام بالدور السياسي الأول في المنطقة عبر التاريخ وحتى بعد انتهاء الحرب الاستعمارية الأولى وتقاسم المنطقة على يد الدول الاستعمارية وظهورها كدولة متنوعة من حيث القوميات والأديان والطوائف ظلت تقوم بدور الظهير للحركة الوطنية في البلدان التي تخضع للاستعمار البريطاني ويسجل لسوريا حتى أثناء خضوعها للاستعمار الفرنسي مساندتها واحتضانها للثورة الفلسطينية بكل مراحلها.

سوريا ذات التنوع العرقي والديني والطائفي ظلت مركزا للتسامح والتعايش وهي أكثر دول المشرق العربي قدرة على الاقتراب من العلمانية والتسامح العرقي والديني ولقد لعبت لقرون دور الدولة المحور في حركة التجارة في المنطقة وهي لذلك أيضا ظلت تقوم بدور الدولة المحور في العملية السياسية منذ زمن بعيد كمركز للعديد من الممالك والحضارات المحلية أو كمركز لإمبراطوريات عبر التاريخ فهي كانت المركز الشرقي أو العاصمة الشرقية للإمبراطورية الرومية كما أنها كانت عاصمة الخلافة الإسلامية الثانية ( الأمويين ) ولقد ظلت سوريا الطبيعية بوابة الوصل التاريخية بين بقاع الأرض ولذا سعت الدول الاستعمارية الى إلغاء المكانة الإستراتيجية التي حظيت بها سوريا عبر تقسيمها الى دويلات صغيرة متنازعة وغير مستقرة بعد ان زرعت الكيان العنصري إسرائيل في فلسطين فأشغلت كل المحيط بذلك أولا ثم جعلت من الأردن وطنا مشتركا قابلا لكل أشكال الاختلاف عند الضرورة وجعلت من لبنان دولة خلافية ومنحت العراق كامتداد للهلال الخصيب كل أسباب الانفجار ألاثني والطائفي وخلافه.
تاريخيا كما أسلفت ظلت سوريا بوابة الشرق كله فعبر التاريخ كان سقوط سوريا بيد الغزاة يعني بالضرورة سقوط مصر وظلت هاتان الدولتان معا يشكلان صمام الأمان او عكسه للشرق الأوسط برمته.
لقد شكلت سوريا حليفا استراتيجيا مهما لروسيا عبر التاريخ ومنذ بدا حكم حزب البعث في سوريا وروسيا تعتبر الحليف الأول كما هي سوريا بالنسبة لها ليس على الصعيد السياسي وكمركز قوة استراتيجي حتى من الناحية العسكرية وإنما كمركز ثقل اقتصادي أيضا فسوريا هي اكبر دولة في الشرق الأوسط تستهلك الأسلحة الروسية وروسيا لا يمكنها تكرار ما خسرته بسقوط القذافي في ليبيا ان هي سمحت بسقوط نظام البعث في سوريا وبين الأعوام 2007 – 2010 وصلت مبيعات الأسلحة الروسية الى سوريا حوالي 4.7 مليار دولار بينما بلغ حجم الاستثمارات الروسية في سوريا منذ العام 2009 حوالي 20 مليار دولار وبالتأكيد فان سقوط نظام البعث هناك سوف يلغي جميع هذه العقود الاقتصادية الهامة جدا بالنسبة للاقتصاد الروسي الى جانب ما سيتبعها من خسائر في مجمل المنطقة بعد سوريا, من جانب آخر فان القواعد البحرية الروسية على الشواطئ السورية هي مواقع قوة روسية متقدمة في مواجهة الغطرسة الأمريكية ولحماية المصالح الروسية في الشرق وتكمن أهمية ذلك في ما قاله الرئيس بوتين أثناء تدشين قطع من الأسطول الروسي في العاشر من كانون الثاني 1991 حيث قال " أود أن أؤكد مجدداً أن تطوير قوة بحرية قوية فعالة هو واحد من أولويات روسيا الرئيسية " بمعنى ان حماية مواقع هذه القوة أيضا هو من أهم تلك الأولويات كما ان روسيا قدمت الكثير من القروض للحكومة السورية ومعنى انهيارها يعني ان تصبح هذه القروض في مهب الريح مما يعود بالضرر الكبير على الاقتصاد الروسي برمته من جانب آخر فقد أتت الأزمة السورية كفرصة ذهبية لروسيا لكسر الاحتكار الأمريكي للسيطرة على العالم الذي ظل يبدو بقطب واحد حتى جاء الفيتو الروسي والصيني ضد أمريكا في الأمم المتحدة بشان الأزمة في سوريا في تشرين أول 2011 وشباط 2012 ثم في تموز 2012 الى ان انتهى الأمر في اتفاقية موسكو في السابع من أيار عام 2013 والذي اعترفت فيها الولايات المتحدة علنا بأولوية الدور الروسي في الأزمة السورية وهو ما ظهر جليا فيما يبدو إطلاق كامل لليد الروسية هناك وهذا يعني ان روسيا قد تمكنت نهائيا من حماية بوابتها الوحيدة الى البحر المتوسط.
كما كان القرن العشرين متميزا بالصراع على مصادر الطاقة والمتمثلة في البترول فان القرن الواحد والعشرين سيتميز بالتخصص في هذا الصراع بعد ان أصبح الغاز البديل الأفضل او الصنف الأفضل من أصناف الطاقة وهو ما يعرف بالطاقة النظيفة خصوصا بعد تنامي الحديث عن حماية البيئة ولان مصادر الغاز المعروفة حتى الآن محدودة جدا فان أهمية سوريا تأتي من كونها احد الدول المنتجة للغاز وخصوصا على شواطئها التي تعتبر مناطق نفوذ روسية بامتياز ولان روسيا والمناطق الحليفة والمحيطة تعتبر المصدر الرئيس للغاز فان من أهم انجازاتها ان تنضم لها أيضا دول منتجة للغاز مثل إيران وسوريا ومصر ولعل ذلك ما يفسر الأهمية السياسية التي تعطيها الولايات المتحدة لقطر البلد الأصغر في العالم العربي ولكن الأكثر غنى بالغاز ولذا تعتبر القواعد الأمريكية في قطر أهم قواعد خارج أراضي الولايات المتحدة ومن جانب آخر فان مصالح إيران بحماية خط تصدير الغاز الذي تحلم بإيصاله الى اليونان وايطاليا عبر الأراضي السورية واللبنانية تعتبر مصالح استرتيجية من الدرجة الأولى ومن هنا يظهر التحالف الأصيل بين إيران وسريا وروسيا على نفس النهج وذلك يمتد أيضا كما يظهر ليشمل استرتيجية إيران بحماية وجود ودور حزب الله في لبنان لما لذلك من أهمية لتنفيذ خط الغاز المار بالجنوب اللبناني ايضا, هنا ايضا يأتي الدور القطري الذي يعاني من التهديات الإيرانية الدائمة بإغلاق مضيق هرمز والذي يعتبر الممر الرئيس للغاز القطري الى العالم ولذا فان قطر تسعى الى إيجاد بديل لذلك وهو ما يسمى بخط الغاز العربي الذي تسعى لانجازه متحاشيا العراق والخطر الإيراني هناك عبر السعودية ثم الأردن ومن ثم لا بديل عن الأراضي السورية وتحديدا حلب وحمص لمرور خط الغاز القطري الى تركيا ويجب الملاحظة هنا الى موضوعة حلب وحمص وهما المدينتان التي تجري بهما أشرس المعارك في سوريا وهذا ما يوضح سبب الجنون على السيطرة على تلك المدينتان بالتحديد ومن الضروري ان نذكر ان هناك خط غاز قطري آخر هو خط العريش – عسقلان الذي يمر عبر الأراضي الفلسطينية المحتلة من قبل إسرائيل منذ العام 1948ولذا تأتي ما تسمى بالثورة السورية كفرصة ثمينة لقطر وتركيا للإطاحة بمشروع الغاز القطري الطموح من جانب قطر لضمان ممر غازها عبر سوريا ومن جانب تركيا ايضا للإطاحة بالحلم الإيراني بالوصول بغازها الى أوروبا دون الارتهان للإرادة التركية كممر لغازها الى اليونان ومن ثم ايطاليا وسائر أوروبا وتسعى تركيا لإرغام إيران عبر حرمانها من ورقة الضغط السورية على الرضوخ لإرادتها في توزيع الغاز الإيراني للعالم وإيران مصممة على استكمال الانجازات التي حققتها بين الأعوام 2007 – 2011 بين أفغانستان وشاطئ المتوسط عبر تثبيت مكانتها في العراق أولا وإذا لم تتمكن من حماية البوابة الرئيسية ايضا الى المتوسط كامتداد لطريقها الأمن من كابول الى بغداد فان كل ما أنجزته هناك يصبح بلا معنى بدون سوريا.
التعقيد في الأزمة السورية يكمن في عدد الدول الطامعة بمكانتها هناك من روسيا وتركيا وإيران وقطر وكذا الدول المحيطة كالأردن والسعودية والأخطر بين الجميع هي إسرائيل التي بدأت بالتعاون مع شركة غاز بروم الروسية مشروعا للغاز تقدر عائداته ب 240 بليون دولار وهو ما يجعل التعقيد في العلاقات الروسية الإسرائيلية العربية قائما وبقوة فالعرب يطمحون بدعم روسي لا محدود في صراعهم مع إسرائيل بينما ستجد روسيا نفسها ايضا أمام مصالحها الاقتصادية مع إسرائيل وهو ما سيولد أنماطا جديدة من التعقيد في المستقبل وقد يصل الى تغييرات في التحالفات بأشكال وأنماط مختلفة, وقد يفسر ذلك لجوء أمريكا الى التنازل للدور الروسي في سوريا كون روسيا تشتبك بمصالح مع إسرائيل الحليف الأهم لأمريكا في المنطقة.
الوضع السوري تجاوز كل الاحتمالات الممكنة بعد التدخل السوري وقد تكون سوريا أصبحت ورقة تقاسم مصالح دولية بين كل من أمريكا وتركيا وإسرائيل من جهة وروسيا وإيران من جهة أخرى لكن المعضلة تبقى في زيادة تعقيد وضع الصراع هناك وهو القنبلة التي زرعتها أمريكا لروسيا في سوريا فالصراع لم يعد بين شقين بعد ان دخلت داعش على الخط وأصبح القتال بين ثلاثة أطراف تقاتل بعضها النظام من جهة ضد داعش وما يسمى بالمعارضة المعتدلة وداعش ضد كليهما وكذا المعارضة فلا حلفاء هنا سوى حلفاء الخارج ولا اتفاقيات هنا سوى اتفاقيات الخارج فقد باتت الدول تقرر ما يجري بسوريا وفقا لمصالحها هي لا لمصالح سوريا وشعبها وقد تكون الحالة السورية والدمار اليومي الذي يلحق بسوريا وخيراتها واقتصادها وناسها أبهى أشكال الاستغوال المجنون للرأسمالية والامبريالية في العالم أكان ذلك من مكونها الأساس الدول الاستعمارية او حتى من الطفيليات التي تعيش على فتاتهم من بعض الدول المتواطئة لمجرد بعض المصالح الصغيرة لها هنا وهناك والتي تخدم بالمحصلة النهائية مصالح الدول الاستعمارية الكبرى.
قد تبدو أمريكا للوهلة الأولى خارج نطاق الصراع الدائر في سوريا فالصراع هناك يدور بين منتجي الغاز وفي طليعتهم قطر طبعا اكبر القواعد الأمريكية في المنطقة ولكن الأمر يصبح جليا إذا فهم من هم المالكين الحقيقيين لشركة قطر للغاز وهم شركة كونوكو فيليبس واكسون موبيل وشل وهي شركات امريكية الى جانب شركتي ميتسوي وماريبيني اليابانيتين وشركة توتال الفرنسية وبالتأكيد فان مصلحة أمريكا في الحقيقة هي مصلحة شركاتها عابرة القارات وشل واكسون موبيل وفيليبس في المقدمة من هذه الشركات العالمية العملاقة.
ما يجري في سوريا ليس حربا دينية ولا حربا ضد الديكتاتورية ولا من اجل الديمقراطية ولا دفاعا عن هذه الطائفة او ضد تلك بل صراع حقيقي على طريق الغاز الى أوروبا فسوريا نقطة ارتكاز لكل من يفكر بإيصال سلعة الغاز الى أوروبا أيا كان سواء كان في إيران او قطر او روسيا او إسرائيل عدا عن المصلحة الإسرائيلية الإستراتيجية العليا لإسرائيل بتدمير وحدة سوريا للفوز نهائيا بالجولان حين تصبح كل سوريا مجزأة وتصبح الجولان جزء من المجزء وجزء من الكعكة المقسمة بين جميع الطامعين, كما ان تركيا التي تسعى لوراثة الصناعة السورية المزدهرة قبل الحرب هناك الى جانب حرصها على ان لا يشاركها احد في أهميتها كناقل رئيس للغاز الى أوروبا بعد سوريا ولذا ينصب اهتمام تركيا وحلفائها على حلب وحمص في سعي لسلخها عن الجسم السوري الأم.

 

بقلم
عدنان الصباح