الوحدة الوطنية الفلسطينية: نحو رؤية شاملة لإعادة بنائها

بقلم: هاني المصري

عقد "مركز مسارات" مؤتمرًا يحمل عنوان "نحو رؤية شاملة لإعادة بناء الوحدة الوطنية"، وكان من المفترض أن يضم 200ـ300 مشارك، في حين حضره أكثر من 700 مشارك من مختلف مدن الضفة الغربية وقطاع غزة وأراضي 48 وبيروت، ما يدلّ على ضيق متزايد من استمرار الانقسام.
وقد قَدَّمتُ خلال افتتاح المؤتمر مداخلة عرضتُ فيها الأسس التي حكمت الجهود والمبادرات والاتفاقات التي وُقِّعت لتحقيق الوحدة والتي كانت وراء الفشل، وستحكم على أي جهود لاحقة بالفشل إذا ما أعيد إنتاجها. وتتمثل هذه الأسس بإيلاء الأولوية لإنهاء الانقسام، على أن يتم بعد ذلك حوار حول المشروع الوطني والمضمون السياسي للوحدة، والاستراتيجية السياسية والنضالية، وأي تجنّب القضايا الأساسية، الخلافية منها تحديداً، وتأجيلها إلى فترة لاحقة. في مقابل ذلك يتم التركيز على جوانب شكلية وإجرائية، مثل عقد الانتخابات، وتشكيل الحكومة، إضافة إلى حصر الحوار بين "فتح" و "حماس"، بينما قضايا الشعب غائبة إلى حد كبير بموازاة تغييب للمؤسسات. وما يزيد الوضع سوءاً هو تمكين أطراف عربية وإقليمية ودولية، فضلاً عن إسرائيل، من لعب دور أكثر بكثير مما ينبغي، لدرجة أن بعضها بات يملك حق "الفيتو" بخصوص الحوار والاتفاقات وجوانب تطبيقها.
وقد تناولت خلال العرض ثلاثة نماذج من العقبات التي حالت دون نجاح الجهود المبذولة لتحقيق الوحدة. أولها يتصل بالخلافات على عقد وتفعيل الإطار القيادي المؤقت لـ "منظمة التحرير"، وثانيها بالمجلس التشريعي، وثالثها بكيفية توحيد المؤسسات والوزارات والأجهزة الأمنية. وبيّنت أن ما يحول دون عقد الإطار القيادي المؤقت هو عدم تقديم "حماس" شيئًا مقابل ذلك. فالرئيس الفلسطيني و "فتح" لا يمكن أن يمكّنا "حماس" من الانخراط في المنظمة والحصول على الشرعية من دون أن تتخلى عن سيطرتها الانفرادية على قطاع غزة، بينما "حماس" لا يمكن أن تتخلّى عن السلطة في غزة من دون أن تضمن المشاركة الفاعلة في السلطة والمنظمة وإنهاء هيمنة "فتح" عليهما. وهذا يعني أن الحل ممكن، بحيث تتخلى "حماس" عن سيطرتها الانفرادية على قطاع غزة مقابل تخلي "فتح" عن هيمنتها على النظام السياسي بمختلف مكوّناته.
أما بالنسبة إلى عقد المجلس التشريعي المنصوص عليه في الاتفاقات كافة، فترى "فتح" أن المدة القانونية له انتهت (كما انتهت مدة الرئيس)، وتخشى إذا وافقت على تفعيله أن توظف "حماس" غالبيتها فيه للتحكّم بالحكم وبإصدار القوانين، وأن يتولى رئيس المجلس الرئاسة لمدة ستين يوماً في حال شغور منصب الرئيس إلى حين إجراء الانتخابات التي لا يستطيع أحد ضمان إجرائها. كما أن "فتح" غير مطمئنة للالتزام بالحل الذي تمّ التوصل إليه بعد تدخّل وسطاء، والذي يتضمّن عدم عرض مواضيع على المجلس من دون اتفاق الكتل النيابية عليها أولاً. ويكون حلّ هذه العقدة بالتوصل إلى توافق وطني على توسيع الإطار القيادي المؤقت ليضمّ ممثلين عن المرأة والشباب والشتات والمجتمع المدني، أو مجلساً تأسيسياً إلى حين إجراء الانتخابات وعقد المجلس الوطني الجديد.
أما مسألة توحيد المؤسسات والوزارات والأجهزة الأمنية، فتقترح "فتح" عودة مؤسسات السلطة التي تقودها إلى قطاع غزة، على أن تقوم اللجنة الإدارية والقانونية باستيعاب الموظفين الذين عيّنتهم "حماس" دون التزام مسبق بتعيينهم جميعاً، أما "حماس" فتطرح عكس ذلك تمامًا من خلال بقاء من عيّنتهم واستيعاب "المستنكفين". والمخرج من هذه العقدة يكون بتشكيل لجنة وطنية إدارية قانونية تقوم بمراجعة شاملة للهيكل الوظيفي الإداري والأمني للسلطة، وإعادة بنائه على أساس الأولويات والاحتياجات والتحديات الجديدة، على أسس وطنية ومهنية بعيداً عن الحزبية والفصائلية، وتخدم الرؤية الوطنية التي يحتاج الفلسطينيون للتوصل إليها بسرعة.
وتطرّقت في مداخلتي إلى الأسباب التي تحول دون إنجاز الوحدة، ومن أبرزها: تمتّع الفصيلين الكبيرين المسؤولين عن الانقسام ("فتح" و "حماس") بقوة وجماهيرية كبيرة، وسيطرتهما على سلطتين واقعتين تحت الاحتلال، بينما الفصائل الأخرى ومنظمات المجتمع المدني ضعيفة ومشرذمة، وغير قادرة على بلورة تيار ثالث قوي قادر على الضغط باتجاه تحقيق توافق بين طرفي الانقسام.
ومن الأسباب التي تحول دون إنهاء الانقسام تخويف الشعب من الوحدة، عبر تضليله بأن الأخيرة تعني تعميم الحصار والدمار الذي يعيشه قطاع غزة، خصوصاً في الضفة. في المقابل لا يشعر الفلسطينيون في أراضي 48 وفي الشتات بأنهم غير معنيين مباشرة بالوحدة، لأن الوحدة الجاري العمل عليها تنحصر نتائجها بالضفة الغربية وقطاع غزة، في مقابل تغييب أو تأجيل القضايا الجوهرية التي تخص الكل الفلسطيني وطغيان الصراع الثنائي الفصائلي على السلطة على أي شيء آخر، ما يجعل الوحدة الجاري البحث عنها أقرب إلى مصالحة عشائرية قائمة على المصالح والمكاسب الفئوية والفردية.
كما عرضتُ العوامل التي تدفع نحو الوحدة برغم صعوبة تحقيقها البالغة، ومنها وصول طرفي الانقسام والكل الفلسطيني والقضية إلى مأزق عميق، يهدّدها بالتصفية أو الإغلاق حتى إشعار آخر. فخيار "أوسلو" أوصلنا إلى الكارثة التي نعيشها، بينما أوصل خيار المقاومة المسلحة، كخيار أحادي، والمراهنة على مشروع "الإخوان المسلمين" والمحاور العربية والإقليمية قطاع غزة إلى الوضع الذي يعيشه، إذ أصبح أقصى ما تأمله وتسعى إليه "حماس" يتمثل برفع الحصار مقابل هدنة طويلة الأمد. لقد باتت الأطراف كافة تدرك أن أي طرف وحده لا يملك الحلّ ولا طريق الخلاص، بل إن مواجهة مشروع الاستعمار الصهيوني لا يمكن أن تؤتي ثماراً من دون الإفادة من جهود وطاقات وإبداعات مجموعات وقوى الشعب الفلسطيني داخل الوطن المحتل وخارجه.
ومن العوامل الدافعة نحو الوحدة أيضاً أن المشروع الصهيوني الاستعماري لم يُغلَق، ولا هو يقبل بأي تسوية تتضمن اقتسام فلسطين، بل يعمل بسباق مجنون مع الزمن لانتهاز الفرصة التاريخية التي تتيحها له الأوضاع العربية والإقليمية والدولية الراهنة لاستكمال مشروع "إسرائيل الكبرى" من خلال ضم مناطق (ج)، وفرض حكم ذاتي مكوّن من معازل تحت رحمة إسرائيل، يقطنها من تبقى من الفلسطينيين الذين يتعرّضون لعملية تهجير متواصلة، إضافة إلى فرض حقائق على الأرض تجعل الحل الإسرائيلي هو الوحيد المطروح والممكن عملياً.
إن الخطر الاستعماري يهدد الفلسطينيين جميعاً، ولا يفرق بين فلسطيني وآخر، بين معتدل ومتطرف، بين ابن "فتح" أو ابن "حماس" أو غيرهما من الفصائل أو مستقل، ولا بين ابن الضفة أو غزة أو أراضي 48 أو الشتات. وما يجعل الوحدة ممكنة استنزاف كلا الطرفين المنقسمين رهاناته على انهيار الطرف الآخر، وعلى المتغيرات العربية والإقليمية والدولية.
وأكدت في المداخلة أن سبب إحجام الفلسطينيين عن المشاركة الواسعة في التحركات التي ترمي إلى إنهاء الانقسام يكمن في أن الوحدة الجاري البحث عنها بدت لهم كما لو أنها نوع من إدارة الانقسام، وأنها تهدف إلى إنقاذ "فتح" و "حماس" واقتسام كعكة السلطة والمكاسب والوظائف بينهما، وأن من شأنها تكريس الواقع الناجم عن اتفاق "أوسلو" بدلاً من السعي للتخلص منه ومن التزاماته.
وانتهت المداخلة بالتأكيد على أن الوحدة المطلوبة يجب أن تكون في سياق بلورة رؤية شاملة تهدف إلى إحياء القضية الفلسطينية، من خلال إعادة تعريف وتحديد المشروع الوطني، وبلورة استراتيجية سياسية ونضالية جديدة تربط ما بين الحياتي والوطني والديموقراطي، وتجسّد التعددية والتنوع والمنافسة على أساس القواسم المشتركة، وتنظيم الخلافات في إطار الوحدة، على أن يترافق ذلك مع إعادة بناء مؤسسات المنظمة على أسس وطنية وديموقراطية توافقية، ومشاركة حقيقية، ووضع السلطة في مكانها الطبيعي، بما في ذلك علاقتها بالمنظمة والبرنامج الوطني لتصبح في خدمته وليس عبئاً عليه.
إذا حدث ذلك، سيحرّك الأمل الناتج الثورةَ الكامنة دوماً في الشعب الفلسطيني كما تدل ثماني عشرة ثورة وانتفاضة وهبة وقعت منذ نشأة ما سُمّي "القضية الفلسطينية" حتى الآن.

هاني المصري