مبكراً جداً، أدركت الحركة الصهيونية أن الإعلام ليس مجرد أداة لنقل الخبر أو لتوصيله، لذا حرصت على توظيفه بقدر من الاحترافية بحيث يظهر لغير المدقق محايداً، إلا أنه في الواقع منحاز لرؤى تخدم الاحتلال وسياساته العنصرية، أي أنه يصنف في شكل موضوعي إعلاماً مجنداً لم يتورع عن رفع شعار "حق القارئ في ألا يعرف" وليس حقه في أن يعرف، بحجة أن بعض المعلومات قد تؤذي عند نشرها وقد تجرح مشاعر القارئ نفسه. واللافت للانتباه أن الرقابة العسكرية على الصحف والمحطات التلفزيونية والإذاعية التي رافقت قيام إسرائيل وحتى وقتنا هذا بلا انقطاع ولو لساعة واحدة باتت غير كافية من وجهة نظر نتانياهو، فشرع كوزير للإعلام في خنق كل صحيفة أو محطة تنتقده. فما هي أسباب هذا التحول؟ وما هي ملامحه؟ ومن أكبر المتضررين؟
قصة مقص الرقيب في إسرائيل على الإعلام تكشف زيف مقولات على غرار: "إسرائيل واحة الديموقراطية"، و "إسرائيل فيلا في غابة"، وتؤكد أنها بالفعل "حاملة طائرات كبيرة" أو "جيش له دولة"، لذا تتحكم الرقابة في أي تغطية لعشرات الموضوعات. والحقائق تقول إن جهاز الرقابة تترأسه حالياً ضابط برتبة عقيد تدعى اريئلا بن أفرهام، تسلمت المهمة من ضابط بالرتبة نفسها بقيت في المنصب لعشر سنوات. الرقيبة الجديدة لم تتورع منذ أسابيع قليلة عن توجيه توبيخ علني الى مواقع الصحف الإلكترونية التي نشرت قبل الموعد المسموح لها فيه بالنشر إنه سيتم بعد نصف ساعة نشر معلومات عن قضية أمنية(!)، ما يعكس حالة من الصلف والتعالي لهيئة الرقابة، فعلى رغم أن الحجب والرقابة وبالتالي التحكم في النص المسموح به للنشر باتت أموراً غير مخجلة وسط كل الصخب حول حرية التعبير وحقوق الإنسان وحرية الصحافة وما إلى ذلك، فإن الرقيبة الأولى لم تترد في توبيخ كل من نشر من دون أي تفصيل، وتجدر هنا ملاحظة أن الأمر لا يقتصر على توبيخ هنا أو لوم هناك بل تم حبس صحافيين بسبب الخروج على تعليمات الرقابة في الشهور الماضية من دون أن تظهر بقية الإعلاميين تعاطفاً أو تضامناً أو احتجاجاً يذكر لا داخل إسرائيل ولا خارجها!
البعض، وفي شكل خجول، طالب بأن يتم تفعيل الرقابة في وقت الطوارئ فقط على أن تستمر في غير أوقات الطوارئ في هيئة "نصح وإرشاد" وليس في هيئة "منع"! لكن لم يتم الالتفات إلى هذا الاقتراح أو حتى دراسته بأي حال من الأحوال وعلى أي مستوى من المستويات!!
والأغرب أن الدعوى القضائية التي تم رفعها ضد الرقابة أمام المحكمة العليا في إسرائيل في شأن الاحتجاج على منع نشر تحقيق صحافي في جريدة محدودة الانتشار، توجه انتقاداً للموساد أدت إلى حكم عاد وأكد أن صلاحيات الرقابة العسكرية تمتد للحفاظ على السلم المجتمعي أيضاً، وأمن المواطنين! وهي بالقطع مصطلحات لا يمكن من خلالها منع تغول تلك الرقابة ومنعها نشر أخبار لا علاقة لها مباشرة بالجيش الإسرائيلي!!
الأمر لم يقتصر على الصحف والمحطات المسموعة والمرئية، بل وصل إلى متابعة دقيقة للحسابات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، بخاصة للصحافيين، اذ يتم التواصل مع أي فرد يتجاوز ويتم "تنبيهه" إلى خطورة ما يفعله!! كل هذا مع قاعدة أساسية تنص على عدم الإفصاح عن الموضوعات التي تدخلت الرقابة لحذفها قدر الإمكان.
حكومة نتانياهو لديها ميراث دولة احتلال ترفض السلام الحقيقي، ولديها ميراث مواز من التعامل المتعالي مع الإعلام بأسلوب المصادرة، والجديد أنها تحاول الهروب الى الأمام بإخراج أقلام وأصوات لديها القليل من الإنصاف من الساحة الإعلامية في شكل نهائي وكامل، بخاصة يديعوت أحرونوت التي دعمت منافسيه.
وعن الخريطة الجديدة للإعلام الإسرائيلي نوضح ما يلي:
أ- صحيفة "هآرتس" (الأرض):
تعد "هآرتس" (الأرض)، أول صحيفة عبرية تصدر مستقلة عن الأحزاب الصهيونية، أسسها البريطانيون عام 1918، وكانت لها طبعة عبرية صدرت في 4 نيسان (أبريل) 1918، (تضم ثماني صفحات بسعر قرش مصري واحد)، واتخذت من القاهرة مقراً لهيئة تحريرها لفترة قصيرة، وكان عدد الاشتراكات 13 مشتركاً في جميع أنحاء فلسطين، ومعدل التوزيع لا يزيد على هذا الرقم. وانتقلت ملكيتها من البريطانيين لليهود، وكان انتقالها من القدس الى تل أبيب عام 1923 بداية تحول مركز الصحافة العبرية من القدس إلى تل أبيب. وكان البريطانيون قرروا في ربيع 1919، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، خصخصة الصحيفة التي كانت تحمل اسم "حداشوت م هاارتس"(أخبار من الأرض)، وسعى الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان الى شراء الصحيفة، ونظراً الى أنه لم يكن يمتلك المال فقد استدعى الى فلسطين المتبرع اليهودي الروسي إسحق ليف غولدبرغ الذي اشترى بالفعل الصحيفة من البريطانيين، وصدرت الصحيفة في 18 حزيران (يونيو) 1919 برئاسة تحرير نيسان توروف. وفي كانون الأول (ديسمبر) 1919 حذفت الصحيفة كلمة "حداشوت" من اسمها الأصلي، وأبقت فقط على كلمة "هاآرتس"، وقد تمرد عدد من المحررين على الصحيفة وأسسوا في عام 1984 صحيفة "حداشوت" (أخبار)، التي توقفت عن الصدور في عام 1993. وهناك من يعتبر "هآرتس" في شكل عام أفضل صحيفة في إسرائيل من الناحية المهنية، وأنها تخاطب الصفوة في كل طبقة من طبقات المجتمع الإسرائيلي، بالإضافة لتمتعها بشبكة مراسلين في معظم عواصم العالم، لأنها تسعى للتوازن بين الأخبار المنشورة بها المتعلقة بشؤون محلية وتلك التي تتناول شؤوناً دولية. وهو الرأي الذي تجابهه انتقادات حادة من الكاتب يوسف حايم برنر" أكد فيها بعد مطالعته للأعداد الأولى من "هآرتس" أن "الصحيفة، ليست سيئة، لكنها تميل للمبالغات، وتفتقر للعمق". ويعتبر الباحث مناحم تلمي أن "هآرتس" صحيفة صهيونية تقدمية، لكن هذا لا يمنع سماحها بنشر آراء متشددة كثيرة أو أصوات يسارية تميل إلى الاعتدال النسبي. كما أن للصحيفة موقعاً ناجحاً على شبكة الإنترنت.
ب- "يديعوت أحرونوت" (آخر الأخبار):
هي الصحيفة الأكثر رواجاً في إسرائيل منذ أواسط سبعينات القرن الماضي، على رغم أن منافستها "معاريف" لم تكن مستعدة للتصريح بذلك أو الاعتراف به. حتى أواسط الثمانينات. وهي أول صحيفة مسائية تصدر في إسرائيل، وتعد "يديعوت أحرونوت" أهم الصحف الإسرائيلية المستقلة حالياً بغض النظر عن توزيع الصحيفة المجانية "يسرائيل هيوم" المقربة من نتانياهو، وقد تأسست كصحيفة يومية عام 1939، وترجع أهميتها إلى أنها صاحبة أعلى توزيع في إسرائيل منذ السبعينات، بما يمثل ثلثي قراء الصحف العبرية. وساعدت الأرباح المتحصلة من التوزيع على شراء الصحيفة أسهماً كثيرة في القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي، وشبكة الكوابل، ومجلات وصحف أخرى. واستطاعت "يديعوت احرونوت" في 15 شباط (فبراير) 1948 أن تجتاز أزمة انسحاب هيئة التحرير وموظفي الإدارة، ومعهم كثير من التجهيزات، ليصدروا "يديعوت معاريف"، وتمت كتابة اسم "يديعوت" بخط بارز حتى تحـدث بلبلة لدى جمهور القراء، مع نشر خبر عن إخراج فني جديد ليديعوت أحرونوت... في ظل ورود ماكينات طباعة حديثة، وحض جميع الصحافيين على عدم قبول رئاسة تحرير يديعوت الأصلية، وهي الأزمة التي انتقلت للمحاكم بالطبع فترة طويلة.
والصحيفة تناصر المعسكر اليساري إلى حد ما في شكل جعل عدداً من قيادات اليمين يهاجمها بشدة. ومن الأمثلة الحديثة على ذلك ما ردده نتانياهو حين قال: "لإسرائيل عدوان رئيسيان: إيران ويديعوت أحرونوت" وفي مناسبة أخرى قال: "أكبر عدوين لإسرائيل هآرتس، ونيويورك تايمز!!".
مالك الصحيفة الحالي هو نوني موزيس وهو يعد خصماً مباشراً وصريحاً لنتانياهو منذ أن نشرت الصحيفة تحقيقات مطولة حول سارة زوجة نتانياهو، وفي المقابل أيدت مواقف منافسي نتانياهو إيهود أولمرت، وإسحق هرتسوغ، وتمثل التضييق الواقع على الصحيفة في بيع الصحيفة المجانية للإعلانات بسعر زهيد، بجانب مشروع قانون يجرم الخلط بين الإعلان التجاري والخبر وهو الأمر الذي تتربح منه "يديعوت" في شكل خاص، وقد أدى هذا إلى خسائر والاستغناء عن عشرات من العاملين.
ج- صحيفة "معاريف" (المساء)
من الصحف المستقلة المؤثرة أيضاً. تأسست عام 1948، بعد أن وقع خلاف بين عدد من المحررين في "يديعوت أحرونوت" (يتقدمهم رئيس التحرير) وبين إدارة الصحيفة. وظهرت في البداية تحت اسم "يديعوت معاريف" (أخبار المساء)". وإذا كانت "معاريف" هي ثاني صحيفة مسائية تصدر في إسرائيل، فإنها على مستوى التوزيع ثاني صحيفة أيضاً في إسرائيل، وقد تعرضت الصحيفة لأكثر من أزمة مالية طاحنة، كما تعرض مالكو الصحيفة لأكثر من حكم قضائي بالسجن، لتورطهم في جرائم تتعلق بالتنصت على المنافسين في "يديعوت أحرونوت"، لكن "معاريف" لا تزال تمتلك، على رغم الأزمات المالية أسهماً في أكثر من مؤسسة إعلامية إسرائيلية. وقد شاعت عن "معاريف" مقولة لرئيس الوزراء السابق ليفي أشكول: "لا أقبل تحويل محادثات هاتفية لي خلال جلسات الحكومة، إلا في حالتين: الأولى هي اتصال هاتفي من"آرييه دسنشيك" رئيس تحرير "معاريف"، والثانية نشوب حرب! الأمر الذي يدل على نفوذ مبكر سابق للصحيفة، وتأثير لافت للنظر للقائمين على العمل بها على دوائر صنع القرار في إسرائيل.
والصحيفة مملوكة، -هي وصحيفة "جيروزاليم بوست" الصادرة بالإنكليزية- لإيلي عزور، وهي لا تعد من الصحف المحببة لنتانياهو لأنها تفسح المجال للصحافي الشهير بن كاسبيت للكتابة الانتقادية اللاذعة ضد نتانياهو الذي يضغط على المالك لكونه أيضاً مالك مجموعة قنوات فضائية رياضية تحتاج الحصول على تصاريح خاصة بانتظام من نتانياهو.
د- "ماقور ريشون" (مصدر أصيل)
وردت كلمة "ماقور" في العهد القديم بمعنى "مصدر" أو "نبع"، تأسست عام 1997، ومن مطالعة أعداد من "ماقور ريشون"، يمكننا القول أنها صحيفة أسبوعية تحمل طابعاً تجارياً مستقلاً واضحاً. وهي تتمتع بإخراج متميز مقارنة بأغلب الصحف الدينية، وهي تحمل في صدر صفحتها الأولى عبارة "الصحيفة الإسرائيلية الجديدة" وفي التعريف الداخلي بها تشير إلى أنها "صحيفة ماقور ريشون الجديدة"، والملاحظ أنها تعتمد على الإعلانات في دخلها، حيث خصصت مساحات كبيرة للإعلانات، التي يمكن التوقف عندها بالرصد والتحليل، وتروج هذه الإعلانات لنشاطات أحزاب دينية مثل "المفدال" و "تقوماه" وحركات سياسية مثل "أمناء جبل الهيكل"، وجمعيات وشركات تسعى لتقديم خدمات تجارية للتيار الديني في إسرائيل، مثل شركات سياحة لتنظيم رحلات خارجية وداخلية للمتدينين (ومن بينها رحلات الى مصر) ومكاتب للتزويج بالإضافة لباب مطلوب زوج أو زوجة.
وعند مقارنة الصحيفة بصحف أخرى تقليدية مثل "هموديع" و "يتيد نئمان"، نجد أن التقارير في "ماقور ريشون" أكثر سخونة وديناميكية، واللغة أكثر سهولة، ولا يوجد تقيد بتفخيم وتعظيم لنشاطات حزب أو أشخاص بعينهم، باستثناء إبراز مواقف اليمين الإسرائيلي السياسية، والمثال على ذلك الاهتمام المبالغ فيه بخبر يتحدث عن موقف حزب "المفدال" من ترشيح موشيه كتساف لرئاسة الدولة، ويبدو أن إبراز الخبر بعناوين كبيرة يرتبط أيضاً- كنوع من المجاملة- بالإعلان الكبير الذي نشرته "جمعية أنصار المفدال" في العدد نفسه.
اشترى الصحيفة أخيراً مالك صحيفة "يسرائيل هيوم" ما يخدم مواقف نتانياهو، وقد تقدم عدد من المنافسين بدعاوى قضائية لوقف البيع، إلا أن المحكمة رفضتها.
ه- يسرائيل هيوم (إسرائيل اليوم)
تأسست عام 2007 بهدف اختراق الإعلام المستقل والضغط عليه، نظراً الى أن المالك شلدون أدلسون هو صديق نتانياهو المتحالف معه في كل ما يخدم توجهاته، وهي صحيفة مجانية ما ساعد على تقدمها للمركز الأول في التوزيع في وقت قصير نسبياً. وقد طلب أخيراً الصحافي رفيف دروكر من القضاء كشف مواعيد الاتصالات الهاتفية بين نتانياهو، وعاموس رجيف" رئيس تحرير الصحيفة لاستيضاح مدى التحالف وارتباطه بنشر موضوعات معينة لمصلحة نتانياهو أو ضد منافسيه. ويسعى المالك حالياً، بعد شراء صحيفة "ماقور ريشون" وموقع nrg الإخباري الشهير عام 2014، إلى تجاوز عقبات قانونية تحول دون امتلاكه أيضاً قناة تلفزيونية.
ومن كل ما سبق، يتبين لنا اهتمام اليهود المبكر بالصحافة وبالسيطرة عليها بالرقابة، ثم دخول نتانياهو تدريجياً في الإعلام الإسرائيلي منذ العام 2007 الى مرحلة تأديب الخصوم وتكسير عظامهم إن أمكن، وهي المرحلة التي تزايدت وتيرتها بتوليه حقيبة وزارة الإعلام الى جانب رئاسته للوزراء، وإن كانت سبقته شخصيات سياسية صهيونية اهتمت بالصحافة. فقد كان الاهتمام يتمثل في الكتابة لها بانتظام بداية من هرتسل، وجابوتنيسكي، وحاييم وايزمان، مروراً بمئير كاهانا، ووصولاً الى قادة عدد من أحزاب مثل تومي لابيد زعيم شينوي الراحل، ويائير لابيد، وشيلي رحمنوفيتس ويوسي بيلين، ويوسي ساريد، وشولاميت ألوني. وهم من قيادات حزب المعسكر الصهيوني وميرتس، وغيرهم. كما يتبين لنا أن نشأة الصحف تشير إلى تأثير عميق في المجتمع، وتفاعل مستمر مع القضايا الداخلية والخارجية، في ظل درجة من التنافس منذ البداية على التوزيع والتأثير بلغ حداً كبيراً من الجدية، بل والشراسة التي خرجت عن القوانين في بعض الأحيان، وهو الأمر الذي استفاد من نتانياهو وأنصاره إلى حد بعيد، بخاصة بعد اختراقه الضاغط الواسع للقناة الثانية، والقناة العاشرة ذات الانتقادات الحادة، وارتفاع النبرة المؤيدة لنتانياهو في إذاعة الجيش الإسرائيلي بعد تولي افيغدور ليبرمان حقيبة الدفاع، وهو المصير الذي من المنتظر أن يحل أيضاً على "قناة الكنيست" التلفزيونية التي اقترب أنصار نتانياهو من امتلاكها هي أيضاً!
أحمد فؤاد أنور
* أكاديمي مصري