تعد الانتخابات في أي نظام سياسي ركيزة أساسية. ولا يكتمل أي بناء ديمقراطي إلا بها. وهي تجسيد حضاري وحقوقي للاختيار الحر للإنسان المعاصر. وتستمد النظم الديمقراطية شرعيتها من خلال هذا السبيل. وتعطيل أو تزوير أو تأخير الانتخابات في أي بلد لهو مؤشر على الفساد والنقيض الواضح للديمقراطية.
هذه الديباجة تمثل قناعة مطلقة للكاتب. لكن الانتخابات واحدة من وسائل الديمقراطية. لكنها ليس الديمقراطية ذاتها. فالانتخابات-تقنياً- دليل ارشادي لآلية اختيار المواطن لأصحاب المواقع العامة وصناع القرار. وهي –سياسياً- ترجمة لثقافة المواطنة والمدنية والدولة العصرية. وهي -قانونياً- التعبير العادل عن حق الانسان في اختيار من يمثله.
والانتخابات حق قانوني وسياسي في كل سياق يفترض حرية الاختيار . وعلى أي مستوى، من لجنة الحي والنوادي الثقافية والرياضية والفنية. بل يمكن في داخل العائلة الواحدة ان تكون الانتخابات ضرورة للنجاح. وما ذكرناه مسائل مفهومة للمنشغلين بالشأن العام. والسؤال المطروح: ما علاقة ذلك بالانتخابات البلدية الفلسطينية؟
ان هناك رزمة من المغالطات التي تروج - سياسياً – حول الانتخابات البلدية. فالمشهد السياسي بفعل الادوات الاعلامية للأحزاب والتنظيمات الفلسطينية تقدم أمر الانتخابات البلدية كونها حل لأزمة الواقع الفلسطيني الداخلي. وباعتبارها قادرة على تجبير انكسارنا الذاتي وتصدعنا الى ثنايات متنافضة .
لم يقدم صناع القرار الفلسطيني للرأي العام الهدف الحقيقي من اتفاقهم على ضرورة الانتخابات البلدية. فلماذا سبق الاتفاق على الانتخابات البلدية –مثلاً- الاتفاق على المصالحة؟ لماذا لا يتم الاتفاق على مواجهة قضايا المواطن الحقيقية . البطالة، الانحراف، اتساع رقعة الفقر، مأساة الواقع الصحي، البلاء في المسيرة التعليمية، الهجرة، الجريمة، الغلاء، المتاجرة بالوطن والمواطن، الحصار على غزة، التهويد، البؤس الرهيب والاحباط العميق للانسان الفلسطيني. أليست هذه هي قضايا المواطن الحقيقية ووجعه؟ ألا تعني هذه الانتخابات اجتزاء حلول للازمة الفلسطينية؟ وترقيع للمصاب الفلسطيني الكبير؟
باختصار ، الانتخابات البلدية ونتائجها ستعين- في أحسن الاحوال - في تحسين بعض المرافق الخدماتية في حياة المواطنين. لكنها ستظل حبة واحدة في مسبحة الوجع الفلسطيني. وهو ما يدفع للقول انها خطوة حزبية تسمى(الهروب الى الامام). وهو هروب غير مدروس التوابع والتداعيات. هروب العاجز لا تخطيط العاقل المتفحص. وهنا، كل احتمالات الفشل واردة .
سيقول البعض انها خطوة في طريق الانجاز. وهو قول يعكس عقلية السياسيين الفلسطينيين الرسميين الذين اعتادوا اتخاذ القرارات الصعبة على حساب المواطن. وتدربوا كثيرا ولا زالوا في استنزاف موارد الناس وجهدهم ووقتهم واحلامهم.
ما الذي ستغيره الانتخابات البلدية وهو السؤال المفترض ان يناقشه صناع القرار؟ فإن قادت الى تغيير السلطة السياسية وتشريعاتها الهشة ونظمها الفاشلة. وان ساهمت في رأب الصدع وانهاء الانقسام. او في التصدي للبطالة والحصار وتطوير التعليم والصحة والصناعة والتجارة . او دمقرطة نظامنا السياسي. فأهلاً بها. لكن، إن كانت تمثل خطوة التفافية على احتياجات الواقع وضروراته فإنها تسمى ديمقراطية الصرف الصحي على حساب ديمقراطية النظام السياسي الفلسطيني برمته.
ندرك ان انتخاب المجالس البلدية في كل العالم ليس من مسؤلياتها تحقيق كل ما تقدم. لذلك نقول ان الانتخابات وسيلة للديمقراطية. لكنها لا تعني الديمقراطية نفسها. فان كانت الانتخابات هي الديمقراطية فمن باب أولى أن يتم انتخاب رئيس السلطة وبرلمانها أولاً. لان انتخاب الرئيس والبرلمان أولى ديمقراطياً من انتخاب مجلس بلدي يعتاش على الضرائب التي يتم اقتطاعها من اللحم الحي للناس والبسطاء والغلابة.
ليس ضد الانتخابات بل إنني من أشد المطالبين بضرورتها. لكن سلم الانتخابات لتحقيق الديمقراطية له أولوياته. فهل يعقل ان تقف ديمقراطيتنا وتختصر في انتخابات بلدية؟ وهل من ضامن لسلامة الناخبين أو المرشحين في شطري الوطن؟ ماذا لو فازت حماس بهذه الانتخابات في الضفة. وفازت بها فتح في عزة. فمن سيحكم من؟ ومن سيلتزم بمن؟ هل يعقل ان تجرى انتخابات بلدية تحت حكم سلطتين متباينتين؟ أليس من الممكن ان تشير هذه الانتخابات بنتائجها في ظل هذا المناخ السياسي المتردي الى تكريس واقع الانقسام وتجسيد مفهوم الكيانين الفلسطينيين؟ ومن يضمن ألا تلعب إسرائيل لعبتها في هذه الانتخابات أو تخريبها؟ خاصة ان الفصل بين السياسي والخدماتي في هذه الانتخابات شبه مستحيل.
ان الجهد الدؤوب لاعتبار الانتخابات البلدية حاجة ملحة وخطوة انطلاق يعكس –وبوضوح-قصور العقل الرسمي الفلسطيني في ترتيب الاولويات. وان مسيرة الوطن قائمة على رد الفعل والعشوائية. وان هذا العقل هو السبب في تخبط الاداء وشح الفعالية والانتاج. لأنه بُني على أسس فئوية وحزبية وارتجالية ودفع وما زال يدفع المواطن ثمنه غالياً.
ان المقصود ليس معارضة او رفض لمبدأ الانتخابات البلدية. فلا اختلاف على أهميتها. لكن الاعتراض هنا على ترتيب الالويات الفلسطينية. فالألويات تبدأ من أعلى النظام لا من أدناه. والالويات ألا نتستر بمفهوم الضغط الدولي بضرورة اجراء الانتخابات البلدية على حساب البرلمان والرئيس والسلطة. وألا نحشر في ماراثون انتخابي قد تكون نتائجه-سياسيا- تعظيم لازمتنا الداخلية.
بقلم/ د. عبد ربه العنزي