الإضراب سلاح الأسرى المؤلم وسبيلهم الموجع

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

يوماً بعد آخر تتدحرج كرة الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وتكبر، ويتسع الإضراب ويلحق به آخرون، وينظم إليهم فيه قدامى الأسرى والمعتقلون الجدد، ولا يتأخر عن معركتهم العادلة ونضالهم الإنساني المسنون والأطفال، والمرضى والأصحاء، ومن اقترب الإفراج عنهم ومن تأخر، ممن يتطلعون إلى تحسين ظروف اعتقالهم، أو التأسيس لمن سيبقى خلفهم أو سيأتي من بعدهم، وبدأت مع الأيام تنتظم صفوفهم وتتحد مواقفهم، وتشغل العالم قضيتهم، وتكبر مطالبهم المشروعة وحاجاتهم الإنسانية، ويزداد عندهم الإصرار ويشتد فيهم الثبات أكثر على مواقفهم، دون خوفٍ من موتٍ محققٍ، أو ضررٍ متوقعٍ، أو خضوعٍ لممارساتٍ من العدو أشد قسوةً وأكثر عنفاً.

الأسرى في سجونهم، والمعتقلون خلف القضبان في زنازينهم، نفوسهم حرةٌ، وقلوبهم أبية، وأرواحهم عليةٌ، لا يقبلون بالضيم، ولا يسكتون على الهوان، ولا يرضون بالقليل يدفع إليهم، ولا بالفتات يلقى إليهم، ولا تقيد الأغلال عقولهم، ولا تكمم القوانين أفواههم، ولا تخرس العقوبات ألسنتهم، ولا تخيفهم القوة، ولا ترعبهم السلطة، ولا يمنعهم من التعبير عن مواقفهم سجانٌ لا يرحم، وسلطانٌ لا يفهم، وأسوارٌ مع الأيام ترفع، وجدرانٌ تنصب، وسنواتٌ إلى السنوات تلحق، وأحكامٌ فوق الأحكام تصدر، ولا يلقون سلاحهم لوعودٍ كاذبةٍ، وعهودٍ واهيةٍ، ولا لسياساتٍ ماكرةٍ، فقد علمتهم السنون وأكسبتهم الأيام خبرةً والتجارب الكثيرة درايةً، فما عادوا أغراراً ولا صغاراً، ولا ضعافاً ولا عيالاً.

إنها معركةٌ مستمرةٌ لا تقف حتى تبدأ، ولا تهدأ حتى تستأنف، وما تكون معركةٌ فاصلةٌ إلا اندلعت أخرى أشد قسوةً وأكثر هولاً، وما يكاد ينتصر الأسرى والمعتقلون في معركةٍ بتضحيةٍ وفداءٍ، حتى ينقلب عليهم العدو بحقدٍ ولؤمٍ، ومكرٍ ودهاءٍ، يحاول أن ينتزع مكتسباتهم، وأن يفرغ انتصارهم، وأن يزرع في قلوبهم اليأس، وأن يقتل في نفوسهم الأمل، مستغلاً قدراته، ومستفيداً من سلطاته، في ظل الصمت الدولي والعجز العربي، فيوزع الأسرى ويقسمهم، ويشتت جمعهم ويفرق صفهم، ويبعد القادة عن العامة، والكبار عن الصغار، والقدامى عن

الجدد، والصبورين العنيدين عن غيرهم، والمتحمسين عن سواهم، والرواد عن الجند، وحملة الأفكار وصناع الثورة عن حشود المضربين العامة وسواد المعتقلين الأكثر.

يخطئ العدو عندما يعتقد أن إجراءاته تفت في عضد المعتقلين، وتوهن عزمهم، وأن قرارات النقل التعسفية التي ينفذها، وعمليات إعادة التوزيع والتقسيم المنظم والعزل العقابي تمنع تواصل الإضرابات، وتحول دون نقل الخبرات، وتفشل محاولات المعتقلين النضالية، وتفسد التنسيق بينهم، وتعطل مشاريعهم، ولهذا فهو يبادر إليها فوراً، ويمعن فيها أكثر، ولكن كيده يرتد دوماً إلى نحره، ومكره يبوء به وينقلب عليه، ويفشل فيما يرمي إليه، إذ على الرغم من كل ما يقوم به بصفته السلطة وصاحب القرار، فإن الإضراب ينفذ ويمتد حتى يشمل كل المعتقلات والسجون، وتنتقل أخباره وتنتشر أنباؤه، وتعم العالم أحداثه، ويعلم بها الفلسطينيون في الخارج فينتصرون لهم، ويهبون من أجلهم، ويتظاهرون ويعتصمون ويصعدون تضامناً معهم وتأييداً لهم.

ربما أن الأسير بلال كايد الذي مضى على درب السابقين محمد القيق وخضر عدنان وغيرهما ، هو الذي فجر موجة الإضرابات العامة الأخيرة، وهو الذي أشعل فتيلها، وألهب أوارها، وعلى دربه سار أمينه العام أحمد سعدات ومئات الأسرى الآخرين من كل التنظيمات والفصائل، الذين أيدوه في معركته، وساندوه في قضيته، ولكنهم كانوا يدافعون أيضاً عن قضاياهم ويخدمون أهدافهم العامة، فهم كبلال يرفضون سياسة الاعتقالات الإدارية، وعمليات التجديد المستمرة لها والتي قد تصل إلى خمسة سنواتٍ وأكثر، كما يرفضون سوء المعاملة، واقتحام غرفهم وتفتيشها والعبث في محتوياتها، ويعترضون على إيذاء ذويهم والتضييق عليهم، ومنعهم من حقهم في زيارة أبنائهم والاطمئنان عليهم.

بلال كايد مصرٌ على موقفه، وماضي في إضرابه حتى نيل حريته التي فقدها لأكثر من أربعة عشر عاماً، ويوم أن استحق الإفراج عنه بعد طول معاناةٍ، باغتته سلطات الاحتلال الإسرائيلي بالتجديد له، وكأنها تريد أن تقهره وغيره، وأن ترسل من خلاله رسالةً إلى كل المعتقلين والأسرى مفادها أن انتهاء الحكم القضائي لا يعني الحرية، وأن أمر اعتقالهم جاهزٌ، ومكانهم في السجن محفوظ، وأن الذي دخل السجن مرةً لا ينبغي أن يخرج منه أبداً، ليكون عبرةً لغيره، ودرساً قاسياً لمن خلفه وأراد أن يتبعه ويقلده.

ظن العدو الإسرائيلي أن سنوات السجن الأربعة عشر قد هدت بلال كايد وأضعفته، وأوهت قوته وذهبت بعزيمته، وأنه ما عاد قادراً على المقاومة والنضال، أو المجابهة والقتال، إذ ضيقت الجدران نفسه، وهبطت الأسوار بروحه، وقضى التعذيب على همته، ونال الأسى من عزته، وحطت الأيام من كرامته، وأنه الذي اعتاد على القيد، وتعود على السجن، سيقبل بالمزيد منه ولن يثور، وسيخضع للجديد منه ولن ينتفض، ولن يكون عنده الجلد ليقاوم، ولا الروح للتحدي، ولكنهم فوجئوا به ليثاً هصوراً وأسداً مقداماً، يتقدم الصفوف ويثبت، ويرقع الراية ويصرخ، ويتحدى العدو بجوعه ويصبر، ويقاومه بأمعائه وينتصر.

الأسرى والمعتقلون لا يحبون الجوع، ولا يعشقون عذاب الروح والجسد، ولو أنهم وجدوا وسيلةً أخرى للوصول إلى أهدافهم، وتحقيق رغباتهم، ورفع الظلم عنهم، وصد العدو عن إيذائهم والمس بحقوقهم، ما لجأوا إلى هذا الأسلوب الموجع، والدرب المؤلم الشائك، وحرمان النفس من متعة الطعام اللذيذ، والجسد من الحاجة إلى الغذاء المفيد، ولكنهم يلقون آذاناً إسرائيلية صماء، وسياسةً رعناء، وحكومةً هوجاء، وإصراراً متزايداً منهم على الحرمان والتضييق والتعذيب، الذي اعتاد في تعامله مع الأسرى والمعتقلين وذويهم، على جرح الجرح، واعتقال المعتقل، وأسر الأسير، وحرمان المحروم، وعزل المعزول، وتعذيب النفوس المنهكة، وضرب الأجساد المتعبة، والقضاء على الروح الأبية الباقية، والنفس التواقة إلى الحرية، المتطلعة إلى الثورة والانتفاضة.

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

بيروت في 14/8/6201 https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi [email protected]