يقود محمود عباس قطيعاً من الأحزاب السياسية نحو معركة إنتخابية معلومة النتائج والأغراض، ويجبر كل الحركة السياسية الفلسطينية على القفز عن ضرورات وطنية مثل إنهاء الإنقسام وإحتضان الإنتفاضة التي إندلعت في الضفة والقدس، ليدخلها عنوة أو بتخطيط لخوض إنتخابات بلدية لن تسهم في تعبيد طريقاً واحداً لتفكيك أزمات النظام السياسي الفلسطيني بعد أن أصابه العطب وتلاشت قدراته في معالجة كومة أزمات كبيرة ضربت المجتمع الفلسطيني في السياسة والإقتصاد لدرجة فقدان أهلية هذا النظام لإدارة أيّ قضية مهما كانت صغيرة، نظام كسيح يحبو أمام اشتراطات المانحين والإحتلال، لا يقوى على السير خطوة واحدة بإتجاه تطوير المجتمع الفلسطيني وتعزيز صموده، بل أصبح عائقاً حقيقياً أمام فرص التطور والبناء الوطني والديمقراطي.
الإنتخابات البلدية وغيرها ضرورية في أي مجتمع كان، هي أحد أشكال المشاركة الشعبية السياسية التي تساعد في تطوير المجتمعات وتنميتها، وتفعّل آليات المحاسبة الشعبية على السلطة الحاكمة وحزبها، وتعد أرقى ما وصلت إليه الشعوب من تجارب، بشرط أن تكون في سياق دوري وشامل لنظام سياسي متبلور موحد لا سلطة لأحد عليه غير سلطة الشعب، لهذا كانت أحدى مسارات العملية الديمقراطية وليس كلها، ولكن في الحالة الفلسطينية الأمر مختلف ليس لأن الشعب الفلسطيني لا يفهم الديمقراطية ولا يحتاجها، بل بحكم تعقيدات الحالة الفلسطينية الخاضعة لحكم الإحتلال الإسرائيلي العسكري الإستيطاني، وإشراف إدارة فلسطينية ملتزمة بإتفاقات أمنية واقتصادية كارثية لم يجر التخلص منها حتى الآن .
عشرات الدراسات الفلسطينية والدولية أكدت أن الإحتلال سبباً مباشراً في تعطيل خطط التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان، حتى لو جنّدت نفسها كل الكفاءات الفلسطينية في الوزارات والبلديات والنقابات والأندية الرياضية والمنشآت الإقتصادية والملاهي الليلية ستفشل في تأدية واجبها وتعجزعن تنفيذ خططها وبرامجها مع وجود أكثر من 700 حاجز عسكري إسرائيلي في شوارع الضفة الغربية المحتلة، وفي ظل جدار للفصل العنصري مزّق الضفة الغربية وحولها إلى جزر ومعازل مفصولة مترامية الأطراف، وبعد أن استوطنت إسرائيل أفضل المناطق الفلسطينية وسيطرت على معظم مياه الضفة الغربية والقدس وتحكمت في مختلف أوجه حياة الشعب الفلسطيني.
يأتي "ساذج" ويقول أن الإنتخابات البلدية هي مطلب دولي لضمان إستمرار تمويل البلديات، ويتوافق معه آخر ويعدد مناقب الممارسة الديمقراطية وأهميتها، وتنساق معهما الفصائل والنخب التي تشبه نظامها السياسي ويبدأوا حملة انتخابية حامية الوطيس، يستقدم فيها قاموس التشهير والشعارات الخرقاء، ويعاد فيها إنتاج الأوهام التي لن تنشئ محطة واحدة لتحلية مياه البحر دون موافقة الإحتلال، ولا محطة لتوليد الكهرباء في غزة الغارقة في عتمة عمرها عشر سنوات دون حل، رغم كل الصراخ الذي طغى على بقية الأزمات الأخرى وفي مقدمتها وأهمها أزمة المشروع الوطني ومأزق السلطة الفلسطينية بعد فشل المفاوضات وقناعة الجميع أن الإحتلال وحكومته المتطرفة غير معني بعملية تسوية سياسية مستندة إلى الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.
حتىّ لا يساء الظّن فيما أكتب، فأنا مع أي عمل ديمقراطي يمارسه الشعب الفلسطيني، بشرط أن يكون حقيقة ديمقراطي ويخدم قضية، في نفس الوقت أنا ضد إغراق الشعب الفلسطيني في أوهام إضافية تساهم في تحطيمه وإغلاق المستقبل أمامه، وأعيد طرح تساؤلات حول أولويات التحرر الوطني والوضع الداخلي الفلسطيني، فهل الإنتخابات البلدية في ظل الإنقسام مفيدة وتساعد في علاج الخلل المتعلق في الجانب الخدماتي الذي تقدمه البلديات وجميعنا يعلم أن إدخال كيس إسمنت واحد رهن موافقة الإحتلال، ألا يعلم المانحين شيئاً عن إتفاق "باريس الإقتصادي" الذي لم تتحرر منه السلطة وبلدياتها، ولماذا لا يمارسون ضغوطاً على إسرائيل من أجل وقف الحصار عن قطاع غزة لكي تقوم بلدياته بواجباتها في شق وتعبيد الطرق وتمديد شبكات المياه واقامة محطات التحلية على شاطئ غزة وغيرها من خدمات والسماح بإستيراد المواد والمعدات اللازمين لهذه الواجبات؟ وهل هذه الإنتخابات مع كل البرامج الشعارات الجميلة والقبيحة التي سترفع في حملاتها الدعائية ستكون مدخلاً لإنهاء الإنقسام، أم أن وحدة النظام السياسي إدارياً وقانونياً وسياسياً هو المدخل لإجراء الإنتخابات البلدية والتشريعية والرئاسية، وهي ضمانة لنزاهتها وشفافيتها وعدم تعرضها لترهيب أجهزة الأمن وتدخلاته في سير العملية الانتخابية للتأثير على مسارها؟
لقد كانت "خطة الإصلاح المالي والإداري" التي فرضها المجتمع الدولي على السلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني زمن الشهيد ياسر عرفات تحتوي على بند الإنتخابات وعلى قدر كبير من الإبتزاز السياسي، صمد الرئيس عرفات في وجه الإبتزاز وخضع عباس لها، أجريت الإنتخابات وعاش الشعب مرارة هذا الإصلاح المالي والإداري وكلفه غالياً، الإنتخابات في حينه صنعت النكبة الثانية "نكبة الإنقسام" وشهد الفلسطينيون على حقبة ظلماء من الإنتهاكات والقتل وترهيب عصابات الأمن ومصادرة الحقوق والتعدي على الحريات، لنصل إلى نتيجة أن الإنتخابات في الحالة الفلسطينية أمر مختلف، وأنها جاءت عنواناً جميلاً لأجندة أمريكية اسرائيلية تشغل فيها الشعب الفلسطيني، تمزقه وتغرقه في سلسلة أزمات لا يقوى بعدها على مواجهة الإحتلال وهجماته الإستيطانية وجرائمه المتعددة، وتخضع شراذم نظامه السياسي لمعادلة أمنية اقتصادية بحته.
هذه المرة الإنتخابات البلدية بهدف استكمال ما بدأه محمود عباس وشركاه في قطر وتركيا والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، في ظاهرها انتخابات بلدية، ومضمونها سياسية لتعزيز وشرعنة حركة حماس التي أبدت مرونة عالية في التعاطي مع مبادرات تفاوضية سياسية تحلل المحرمات، عرفنا منها "وثيقة سويسرا" على سبيل المثال لا الحصر.
إذا عجز الشعب الفلسطيني عن اعادة توحيد النظام السياسي الفلسطيني بعد عشر سنوات من البعثرة، وعجز عن ردع عصابتين من الفاسدين بفعل الترهيب والقمع، وفهم الشعب أن خطة حماس عباس هي تسليم البلد لقطر وتركيا ومشاريع السلام الإقتصادي بعد الإجهاز على التيار الوطني الذي تم التآمر عليه وإضعافه، فالمهمة الماثلة الآن أمام كل الوطنيين، محاصرة "مشروع حماس عباس" حشد كل الطاقات لإنجاح حركة فتح التي يسعى عباس إلى اسقاطها، والدفع نحو إقامة أوسع تحالف وطني ديمقراطي يقلب السحر على الساحر، من أحزاب منظمة التحرير وشخصيات وطنية مؤثرة، تحالف سياسي عنوانه الأساسي رفض مشاريع السلام الإقتصادي، واسقاط عرابي السياسة الأمريكية وأجندات فرض الإستسلام على الشعب الفلسطيني.
الإنتخابات البلدية إن جرى تنظيمها، هي فرصة الشعب والأحياء من الأحزاب الوطنية لمحاكمة مرحلة سوداء في تاريخ الفلسطينيين ورموزها، فرصة لتصويب الواقع واعادة ترميم ما أفسده تحالف محمود عباس ومغامرات حماس.
بقلم/ محمد أبو مهادي