المأزق الفلسطيني وأسئلة الواقع.. ثم ماذا بعد؟

بقلم: فايز رشيد

لا أعتقد أن اثنين يختلفان على أن القضية الفلسطينية ومشروعها الوطني، بما يعنيه من تداعيات، تترك بصمتها على مجمل الوضع السياسي الفلسطيني، إن من حيث التراجع الكبير، الذي تواجهه قضيتنا، بما في ذلك، أنها اصبحت خبرا يحتل المرتبة الخامسة أو السادسة حتى في أجهزة الإعلام العربية، أو من حيث الانفكاك الرسمي العربي عن تأييدها على قاعدة "أن أهل مكة أدرى بشعابها"، وصولا إلى علاقات في الطريق لأن تصبح رسمية بين الكيان مع بعض الدول العربية.
أعتقد، أن هناك فهما خاطئا لطبيعة شيطانية الكيان الصهيوني ومخططاته المستقبلية للوطن العربي. هذه، التي عبّر عنها شيمعون بيريز في كتابه "الشرق الأوسط الجديد"، وكما يصوره نتنياهو في كتابه "مكان تحت الشمس"، وفيما تعبر عنه حاليا الأحزاب الأكثر تطرفا في الكيان، إضافة إلى قطعان المستوطنين، وما يقترفونه يوميا من اقتحامات للأقصى الشريف، وما يمارسونه من جرائم على مرأى ومسمع من قوات الاحتلال، بل بالتنسيق معها، إضافة إلى المصادرات الجديدة اليومية للأرض الفلسطينية من أجل الاستيطان وتهويد القدس.
على صعيد آخر، في قراءتهم للوضع، يخطئ كثيرون في تصوراتهم بأن إسرائيل قد تجنح للسلام مع الفلسطينيين، وتقبل بإقامة دولة لهم بين النهر والبحر، حتى بوجود إسرائيل، لأن طبيعة إنشاء إسرائيل مختلفة تماما عن هذا التصور أولا، ثم لأنها لم تُنشأ من الأصل لإقامة سلام، سواء مع الفلسطينيين أو مع العرب.
إنشاء إسرائيل ارتبط بالعدوانية الممارسة فعليا منذ إنشائها وحتى اللحظة، وفي المستقبل أيضا، على الفلسطينيين والدول العربية. مرتبط بتحقيق المزيد من التمزيق في الجسد العربي، أرضا وصراعات، ومنعا لقيام أي تكامل عربي، فما بالك بالوحدة؟ للأسف، ولأن معدل قراءة العربي ربع صفحة سنويا (4 دقائق) ترى الكثيرين منا يجهلون طبيعة ما نواجه من عدو. لذا ينغرّون باصطناع بعض قادته لمزاعم طموحهم إلى السلام! كافة الأحزاب (بما فيها حزب العمل، وحزب الحركة باعتبارهما في عرف البعض حزبين يساريين) متفقة على لاءات معروفة للقاصي والداني، وهي المتعلقة بالقدس، حق العودة، إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على كل أراضي 67، تنفيذا لقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، بدءا من القرار 181 عام 1947 وصولا إلى كل القرارت الأخيرة حول الحقوق الوطنية الفلسطينية، وبالكامل رفضتها وترفضها إسرائيل.
بالمقابل، نحن نعيش حالة من التشظي الفلسطيني، من خلال انقسام لا يوجد ما يوحي بإمكانية تجاوزه على المدى القريب، وهو ما يؤشر إلى استحالة الوصول إلى الوحدة الوطنية، كشرط رئيسي لمرحلة التحرر الوطني، التي يمر بها شعبنا (للأسف بعض أحزاب اليسار الفلسطيني والعربي اعتقدت، أنه وبتشكيل السلطة تجاوزنا المرحلة الأولى، ووصلنا إلى مرحلة البناء الديمقراطي). جبهة وطنية فلسطينية عريضة من أجل مراكمة الانتصارات الجزئية على طريق تحصيل الانتصار النوعي، المعبر عنه في نيل الحقوق وإقامة الدولة المستقلة ذات السيادة. كانت أوسلو بمثابة إعصار كارثي في الوضع الفلسطيني، حتى هذه الاتفاقيات لم تلتزم بها إسرائيل، وأعاد شارون اجتياح الضفة الغربية عام 2002، ومنعت إسرائيل الرئيس المرحوم ياسر عرفات من السفر، لحضور القمة العربية في بيروت (ثم سجنته في المقاطعة، حتى وفاته مسموما من قبلها). القمة العربية أسفرت عما يسمى "مبادرة السلام العربية"، التي وصفها شارون "بأنها لا تستحق الحبر الذي كتبت به"، وطلب نتنياهو حديثا، تعديلها بما يتلاءم مع الشروط الإسرائيلية. ثم إن 22 سنة من المفاوضات مع الكيان، لم تقد إلا إلى اشتراطات إسرائيلية جديدة على الفلسطينيين. هذا هو الوضع الفلسطيني باختصار، يمكن وصفه بكلمة واحدة بأنه"مأزق". الوضع العربي أسوأ حالا بالطبع، في هذه المقالة سأركز على مظاهر المأزق الفلسطيني.
بداية فإن العنوان الأبرز للأزمة هو أن النظام السياسي الفلسطيني يقع تحت الاحتلال، وهذا ما يعمل على خلق إشكاليات حقيقية أمامه، تؤدي إلى تحديد مكوناته، وحركته التي تظل مقترنة بواقع قوانين الاحتلال، وسيطرته الفعلية على جزء كبير من الموارد المالية للنظام، ووجود الكثير من التقييدات الأخرى السياسية على السلطة، فزيارة أي مسؤول عربي أو دولي لرام الله، مرهونة بقرار الرفض أو القبول من سلطات الاحتلال. الاحتلال يؤثر مباشرة وبطريقة غير مباشرة أيضاً، على كل نشاطات السلطة الفلسطينة، هذا هو الجانب الموضوعي الأبرز في الأزمة. أما الجوانب الذاتية في بنية النظام السياسي فتتلخص في جوانب عديدة أبرزها، غياب حدود الصلاحيات بين رئيس السلطة من جهة، ورئيس الحكومة والوزراء، الأمر الذي يوضح أن شكل السلطة هو مزيج من النظامين الرئاسي والبرلماني وليست هذا أو ذاك، فلطالما شهدنا تضاربا بين صلاحيات الرئيس، وصلاحية رؤساء الوزارات والوزراء، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، تبعية الأجهزة الشُرَطية والأمنية الفلسطينية، والكثير من المسائل المالية والقرارات السياسية.
الجانب الثاني ناتج عن تبعات الانقسام الفلسطيني، وفشل كافة الاتفاقيات الموقعة بين طرفي الانقسام في رام الله، وسلطة غزة وحكومتها، فأي نظام سياسي هذا المقسم ليس سياسياً فحسب، وإنما بالمعنى الجغرافي أيضاً، في ظل اتفاقيات عديدة موقعة بين الطرفين لا يجري تنفيذها، الأمر الذي يترك بصماته الواضحة على هذا النظام الواقع بشقيه تحت الاحتلال.
الجانب الثالث هو وصول مفاوضات العشرين عاماً مع العدو الصهيوني إلى طريق مسدود، فالطرح الإسرائيلي واضح وصريح، مفاوضات في ظل الاستيطان المتغول الدائم، وفي ظل اشتراطات إسرائيلية، الاعتراف بيهودية الدولة، تهويد القدس، ولاءات إسرائيلية رافضة لكافة الحقوق الوطنية الفلسطينية.
الجانب الرابع، التنظيمات الفلسطينية الأخرى، لم تستطع تشكيل البديل، الذي يجبر السلطتين على الالتحاق بهذا البديل، وتجاوز الانقسام.
الجانب الخامس، تحديد السلطة لخياراتها الاستراتيجية بالمفاوضات فقط، بعيدا عن كل الخيارات الأخرى، وعلى رأسها المقاومة المسلحة، الأمر الذي أضعف النظام السياسي الفلسطيني برمته، وهو ما ساعد على تصعيد الشروط الإسرائيلية، فما من ضاغط على الكيان الصهيوني للاعتراف بأيٍّ من الحقوق الفلسطينية. هذا إلى جانب ما فرضته اتفاقيات أوسلو على الطرفين من ضرورة التنسيق الأمني بينهما، وعدم تحريض أحدهما على الآخر.
الجانب السادس هو المالي، فالعجز الاقتصادي الفلسطيني ارتفع ليصل إلى ما يزيد عن خمسة مليارات دولار، والأزمة لا يجري علاجها، بل تُرّحَل من سنة إلى أخرى. وما كان لاتفاقية غاية في السوء وهي "اتفاقية باريس الاقتصادية"، التي يحكى أن المرحوم الرئيس عرفات غضب كثيرا ممن وقعها. فقد جعلت من الاقتصاد الفلسطيني، مسماراً في عجلة الاقتصاد الإسرائيلي ومُلحقاً تابعاً له، وما كان لهذه الاتفاقية سوى انتاج المزيد من الأزمات المالية المتفاقمة للسلطة، وسط وجود تضخم في عدد الموظفين الذين يزيد عن(160) ألفاً، ووسط مظاهر فساد كثيرة يعترف بها المسؤولون الفلسطينيون أنفسهم (شكل الرئيس عرفات في حياته، لجنة خاصة لمحاربة الفساد). القضية الأبرز على هذا الصعيد هي أن المجال الوحيد لتجاوز هذه الأزمة هو زيادة حجم المساعدات المالية العربية والدولية للسلطة، وليس اعتماداً على مصادر الدخل الفلسطينية، التي هي الأخرى في جزءٍ أساسي منها مرتبطة بالكيان الصهيوني، الذي يقوم عنوة، بتحصيل الجمارك على البضائع الواردة لمناطق السلطة، وفي كثير من الأحيان تقوم إسرائيل بحجز هذه الأموال وعدم توريدها إلى السلطة إلا بتنازلات سياسية من قبلها. يبقى فقط الضرائب التي تجنيها السلطة من مواطني الضفة الغربية، وهذه لا تكفي إلاّ لسد احتياجات قليلة من نفقات السلطة.
الجانب السابع يتمثل في أنه لا وجود للفصل بين السلطات الثلاث. السلطة التشريعية منتهية ولايتها منذ سنوات، وهي معطلة بالكامل نتيجة اعتقال الكيان لـ44 من أعضاء المجلس التشريعي (منهم عدد قليل أفرج عنه) واختطاف نائبين ما يزالان معتقلين. السلطة التنفيذية تتدخل في الأخرى القضائية، الأمر الذي يساعد على خلط الحابل بالنابل، ويؤدي إلى ضياع الفواصل في الأداء السياسي للسلطة التنفيذية. ثم هناك جوانب عديدة مثلا الجانب الرسمي الفلسطيني لا يربط برنامجه السياسي، بمعنى الوصول إلى ميزان قوى مع الكيان يفرض عليه الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، وإقامة الدولة العتيدة، وإنما نتيجة لتوقيع اتفاقيات أوسلو، تم ربط تحقيق هذا المشروع بالموافقة الإسرائيلية، وهذا لم يحدث، ولا يحدث، ولن يحدث. الأمر الذي يثير تساؤلات عديدة في الواقع السياسي الفلسطيني، وعلى رأسها، ثم ماذا بعد؟ هذا، يستدعي بناء استراتيجية فلسطينية جديدة، متوائمة مع المخاطر الصهيونية. استراتيجية تعتمد النهج الأساس في إجبار الدولة الصهيونية على الاعتراف بحقوق شعبنا الفلسطيني، وحقوق أمتنا العربية أيضاً، ألا وهو الكفاح المسلح، ثم المطالبة بتبني هذا النهج على الصعيد العربي أيضاً. إجراء مراجعة شاملة للمرحلة الماضية. إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية، وإصلاح ما يتوجب إصلاحه من مؤسساتها. إيمان كافة الفصائل بأهمية تشكيل الجبهة الوطنية الفلسطينية الموحدة، التي تضم كافة الفصائل. من دون ذلك، فإننا نطيل عمر المأزق.

د. فايز رشيد

*كاتب فلسطيني