الأرشيف الفلسطيني... من «طفولتي» إلى تل الزعتر

بقلم: فجر يعقوب

تختار المخرجة الفلسطينية نجاح عوض الله عبر عملها في فضائية "فلسطين" أن تتناول في برنامجها "طفولتي" شخصيات فلسطينية ساهمت في إثراء الحياة في بلادها شعراً ومسرحاً وأدباً وفناً عبر العقود الماضية من عمر القضية. وهي اختارت أن تقدم في الحلقات الماضية شخصيات مثل محمود شقير، حافظ البرغوتي، صونيا خضر، وضاح زقطان، وآخرين. وهذه شخصيات تدور في فلك الفن والأدب والصحافة، ولها مساهماتها التي تتفاوت في أهميتها، لكنها متواجدة على الساحة بحسب هذا التفاوت.

يقدم البرنامج خلطة وثائقية درامية يراد منها أن يغوص الضيف في محراب طفولته وأول التأثيرات التي دفعت به ليصبح ما هو عليه. بعض هذه الحلقات جاء على مقدار من الأهمية بسبب توافر المادة الوثائقية التي أغنتها، وجعلت من الفكرة برمتها مادة مستساغة للمشاهدة، وهذا يحسب للإعداد والإخراج الذي تتولاه عوض الله.

في الحلقة الماضية قدمت المخرجة عبر 25 دقيقة (مدة البرنامج) الفنانة المسرحية الفلسطينية ميساء الخطيب التي اختارت للتصوير مكاناً عاماً في مدينة رام الله الفلسطينية. كان لافتاً جداً أن تبدأ الخطيب سرد طفولتها من مخيم تل الزعتر الفلسطيني الذي ولدت فيه عام 1961، وعندما وقعت المجزرة الرهيبة بحق أهله وساكنيه كانت قد بلغت من العمر 15 عاماً.

مناسبة الحلقة بالطبع مرور أربعة عقود على هذه المجزرة. وليس استذكارها من قبل عوض الله – الخطيب إلا لتأليب المادة الوثائقية التي صيغت منها الحلقة على النسيان. تفاصيل المجزرة معروفة للقاصي والداني. وقد قيل فيها الكثير حول مسؤولية من تولى الإعداد والتخطيط والتنفيذ، بل أن الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، كتب عن هذا المخيم الفلسطيني واحدة من أروع قصائده الملحمية، وهي تعد انعطافة كبيرة في نصه الشعري، ولم تخلُ الحلقة من مقاطع قصيدة "أحمد الزعتر" بصوت درويش. تذهب ميساء إلى ذكريات طفولتها في المخيم عبر صور، وإعادة محاكاة بعضها عن طريق الديكودراما، وإن كانت الإشارة إلى عدم مطابقتها للواقع الذي جاءت منه، لا يقلل من قيمتها تماماً، ولكن لا بد من كلمة هنا بحق إعادة إنتاجها بصرياً، فالأمكنة التي تستدعي نقلها عبر الكاميرا، لا تعكس شيئاً من كلام الخطيب، إذ تبدو على شيء من "الرفاهية المتعجلة" لم تتوافر من قبل في المخيم الفقير، كما هي الحال مع الطفلة الصغيرة التي تقوم ببعض الألعاب، أو في لحظات مكثفة من إعادة تمثيل مشاهد خبز العدس لعدم توافر الطحين بعد أن تمكن المقاتلون المدافعون عن المخيم من الاستيلاء على مخزن للحبوب على أطراف المخيم، وقاموا بتوزيعه على اللاجئين فيه بعدل منقطع النظير.

بالطبع تظل الذكريات التي نقلتها ميساء الخطيب من طفولتها، وحتى تلك المتعلقة بتفاصيل المجزرة الدموية أكثر ألماً من الصور القديمة المتآكلة التي تشكلت منها دقائق البرنامج.

قد يفهم من ذلك ضعف ما في العملية الإنتاجية، وهذا تتحمل مسؤوليته المؤسسات الفلسطينية المعنية التي عودت على الإهمال بحق الذاكرة الفلسطينية، بخاصة أن البرنامج من إنتاج التلفزيون الفلسطيني الذي يفترض به توفير المواد الوثائقية اللازمة، وليس ضياع أرشيف السينما الفلسطينية في بيروت مع حصار عام 1982 إلا واحدة من أكبر المآسي التي تتجرعها الثقافة الفلسطينية بصمت، من دون أن تلقى بالمسؤولية على عاتق أحد. وهذا قد يحدث بصور مختلفة، كما حدث مثلاً مع أرشيف التلفزيون الفلسطيني نفسه عندما استولت حركة "حماس" على قطاع غزة، وهو يضم مئات الساعات الدرامية والوثائقية التي تعنى ببعض أهم المحطات من تاريخ القضية الفلسطينية، بل أن معنيين بالأمر يحكون عن كلفٍ مادية عالية بهذا الخصوص، من دون أن تفتح هذه الملفات، وتجري معاينتها بعين ناقدة مسؤولة.

برنامج "طفولتي" الذي نكأ بعض جراح هذه الذاكرة الفلسطينية الموؤودة بالنظر إلى قلة المادة الأرشيفية المتوافرة فيه عن واحدة من أفظع المجازر التي ارتكبت بحق الفلسطينيين، يدفع في الوقت ذاته إلى التنويه بالجهد الكبير الذي قامت به المخرجة اللبنانية نبيهة لطفي قبل رحيلها بقليل في إعادة ترميم فيلمها الوثائقي المهم عن مخيم تل الزعتر ("لأن الجذور لا تموت") بالتعاون مع مركز الفيلم الفرنسي، وهو جهد تعجز عنه مؤسسات بعينها، لكن إصرار لطفي على المضي به على رغم وضعها الصحي المحرج قد يشكل درساً يمكن الاقتداء به في هذا المجال على الأقل.

فجر يعقوب /الحياة اللندنية