عن الوطن والاحتلال 4ـ مخيم قلنديا وخط المواجهة الأسخن

بقلم: عبد الحميد صيام

مخيم قلنديا بالنسبة لي ليس مجرد مكان لتجمع اللاجئين الفلسطينيين المقتلعين قهرا من بيوتهم وأراضيهم وبياراتهم، بل هو جزء من ذكريات الصبا والشباب كونه الأقرب إليّ مسافة، فقد فتحت عينيّ على وقع المخيم وحركته الدؤوبة، وكان والدي يصطحبني طفلا إلى المخيم لزيارة أصدقاء له يطلق عليهم اسم "اللوَزة" وكنت أظن أنهم تجار يبيعون اللوز إلى أن كبرت وبدأت أعي ما يدور في محيطنا وعرفت أنهم لاجئون من بلدة تدعى خربة اللوز غرب القدس. يصل عدد سكان المخيم الآن إلى 15 ألف لاجئ ينحدرون من أكثر من 48 قرية فلسطينية وخمس مدن 60 بالمئة منهم من الأطفال.
من سوء حظ المخيم أو من حسن حظه أنه يقع على الطريق الرئيسي بين القدس ورام الله وإن كان أقرب إلى الثانية. وقد أقامت به وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) مدرستين إعداديتين، واحدة للذكور وأخرى للإناث تضمان أكثر من 2200 طالب وطالبة. كما أنشأت فيه مركز التدريب المهني لتأهيل أبناء المخيم. والمخيم قريب من بلدة قلنديا الصغيرة نسبيا مقارنة مع المخيم. وقد أقيم في البلدة عام 1930 في عهد الانتداب البريطاني مطار قلنديا الذي ظل ميناء جويا رئيسيا حتى احتلاله عام 1967. هذه المواصفات جعلت سكان المخيم الأكثر قدرة على التكيف والخروج من كوابل اللجوء، فمدارس رام الله والقدس مفتوحة لهم كما أن الشارع الرئيسي جذب الكثير من الأعمال والمحلات التجارية، مضافا إلى ذلك معهد التدريب الذي بدأ يخرج المعلمين والحرفيين. وما هي إلا سنوات قليلة حتى بدأ اللاجئون يتعافون اقتصاديا من آثار الاقتلاع وينطلقون نحو ميادين العلم والتجارة والمهن الحرة داخل الوطن وخارجه، فاختفت ألواح القصدير لتقام مكانها بيوت صغيرة وبطريقة عشوائية تتجه عموديا بدل أن تتمدد أفقيا نظرا لضيق المساحة، حيث لا يوجد داخل المخيم إلى الآن مساحات خضراء أو متنزه للاطفال أو ملعب رياضي بمقاسات رسمية، ما خلق حالة من الاحتقان الاجتماعي والضغط السكاني قابلة للانفجار بسهولة. وهذا ما حدث منذ الانتفاضة الأولى إلى الآن حيث لا يكاد يمر أسبوع بدون شهداء أو جرحى أو معتقلين أو مواجهة أو هدم أو اقتحام أو قصف.
أقامت سلطات الاحتلال بعد اتفاقيات أوسلو معبرا ضخما على الطريق الرئيسي العابر للمخيم لضبط حركة الدخول إلى القدس، كما عزل الجدار العنصري قرية قلنديا وقص بلدة الرام. وحسب اتفاق أوسلو اللعين لا يخضع المخيم تماما للسلطة الفلسطينية ولا لسلطة الاحتلال تماما، ما خلق حالة من الفوضى كانت تتمثل في حركة سير عشوائية قرب الحاجز تستغرق ساعات أحيانا وقد تنتهي بمشاحنات ومشاجرات بالأيدي نتيجة تخطي حدود المعقول في فرض الإرادة تصل أحيانا إلى السير في الاتجاه المعاكس. كما تجسدت الفوضى المقصودة في انتشار الأوساخ في الشارع الرئيسي لغياب السلطة، وفي انتشار المباني غير المرخصة، بل أقيم العديد من المباني الكبرى في أراض لا يملكها صاحب العمارة لغياب المرجعية في استصدار رخص البناء. ولا يختلف اثنان على أن هذه سياسة لئيمة ومقصودة من سلطة الاحتلال كي يتقاتل الفلسطينيون فيما بينهم وينشغلوا عن مقارعة الاحتلال. إضافة إلى كل هذا أقام العدو برجين للمراقبة، واحدا بالضبط قرب المعبر والآخر داخل الجدار في أرض الرام. وقد قام شباب المخيم أثناء حرب الإبادة على غزة صيف عام 2014 باقتحام البرج الأول وحرقه فهرب الجنود مذعورين وسط الليل. أما البرج الثاني فمهمته الأساسية القتل، حيث يضم عددا من القناصين الذين يصوبون رصاصهم نحو الرأس. وقد ارتكبوا من الفظائع ما لا يمكن تعدادها هنا، كان من أبشعها يوم 26 أبريل الماضي حيث تم قتل الفتاة الحامل مرام صالح أبو إسماعيل (23 عاما) بدم بارد وعندما هرع أخوها إبراهيم (16 عاما) لإسعافها جندل فوقها.
مع حالة الفوضى والضغط التي يعيشها أبناء المخيم إلا أنه من النادر أن يتقاتلوا فيما بينهم، وإنْ حدث شجار ما، تسرع اللجنة الشعبية للمخيم المكونة من الفصائل والوجوه المعروفة والمحترمة لاحتواء الخلاف، كما أخبرني السيد أبو جورج رئيس اللجنة الشعبية الذي رافقني في جولة داخل المخيم ورتب لي لقاءات مع عدد من المناضلين والجمعيات الأهلية في المخيم.
كان لقائي الأول مع الأسير المحرر نضال أحمد سمارة من أبناء المخيم، الذي خرج من الاعتقال بعد أن قضى خمسة عشر عاما. دخل السجن أول مرة عندما كان في الرابعة عشرة وكان ناشطا في انتفاضة الحجارة واعتقل مرة ثانية وثالثة ورابعة. اعتقل عام 1991 وهو يشارك في إحياء ذكرى النكبة وسقط بين يدية صديقه الأعز إسماعيل شحادة. وقال "لقد استشهد معظم أصدقائي في الانتفاضة الأولى أما أنا فدخلت السجن عام 1992 لمدة سنة ونصف السنة وأفرج عني بعد اتفاقية أوسلو للسلام. مارست حياة طبيعية لمدة ست سنوات حيث تزوجت وأنجبت طفلين باسل وبلال ثم أعيد اعتقالي عام 2001 بسبب مشاركتي في انتفاضة الأقصى وحكم علي 15 عاما قضيتها كلها في المعتقل". "فرخ البط عوام" يتابع نضال. "أولادي أيضا دخلوا السجون – دخل باسل السجن مرتين وأفرج عنه في صفقة تبادل شاليط، أما بلال الأصغر فقد اعتقل أيضا لمدة خمسة شهور".. "لن أستقيل من النضال من أجل وطني لكني أريد الآن أن أنتبه قليلا لأولادي وعائلتي".
المناضل محمد أبو حبسة الذي قضى عمره مناضلا أو سجينا أو مشردا، أكد أن المخيم دفع 70 شهيدا من بينهم 21 في هبة الأقصى الأخيرة، جثامين أربعة منهم ما زالت محتجزة. "من بين الشهداء ابني عدنان الذي استشهد في عملية باب الخليل يوم 23 ديسمبر 2015 وصديقه وجاره ابن المخيم عيسى عساف اللذان اتهما بقتل مستوطن وأصابة أربعة. هدموا بيتي بعدها سلموني الجثة ليلة 31 ديسمبر 2015 وطلبوا مني أن أدفنها في الليل. كانت ليلة رأس السنة ماطرة وفوجئت أن نحو 40 ألفا شاركوا في الجنازة".
الآنسة هيا خضر رافقتي في زيارة لمركز الأطفال للثقافة والتنمية في المخيم. قالت إن "مركز الأطفال للثقافة والتنمية أسس عام 2003 بهدف الدفاع عن حقوق الأطفال في المخيم وتبني قضاياهم وتطوير طاقاتهم وقدراتهم نحو بناء مجتمع سليم ومتطور وصحي". وقالت هيا وهي معلمة لغة إنكليزية "المركز عبارة عن مؤسسة غير حكومية وغير ربحية تعتني بشؤون الطفل التربوية والثقافية والصحية والترويحية بهدف تنمية الطفل صحيا وعقليا بصورة سليمة وتخفيف الأعباء النفسية التي يعاني منها أطفال المخيم نتيجة تعرضهم للعنف المبكر من قبل قوات الاحتلال".
ميسون جحاجحة، المشرفة على البرامج في المركز، أسهبت في شرح أنشطة المركز: "لا يوجد طفل في المخيم لم يتعرض بشكل مباشر أو غير مباشر للعنف، هؤلاء الأطفال يعانون من حالات قهر وحرمان وضغط وهم بحاجة إلى مساعدة نفسية في ظل غياب المختصين وانعدام المساحات الخضراء. ينظم المركز العديد من الأنشطة من بينها مخيمات صيفية في الوطن وفي الخارج شملت رحلات إلى الأردن ولبنان وفرنسا وإيطاليا. كما ينظم المركز دورات تدريبية في الرسم والأشغال اليدوية والكمبيوتر والقراءة والكتابة والموسيقى والرياضة بأنواعها والصحة البدنية والحفاظ على البيئة والدبكة الشعبية. والنادي مفتوح للأطفال دون الثامنة عشرة من الجنسين".
"المرأة هنا تدخل في كل المؤسسات من التنظيم السياسي إلى اللجنة الشعبية في المخيم إلى مركز الطفل ومركز الشباب ومركز تأهيل المعاقين ومركز المرأة"، تتابع هيا. "عندنا مركز تدريب رياضي هناك فترات للنساء وفترات للشباب. هناك فرقة دبكة تابعة لمركز الشباب مكون من الفتيات والشباب". ميسون (وقد استشهد أخوها مؤخرا في هبة الأقصى) أكدت أن هناك برامج تأهيلية لأبناء الشهداء وأبناء الأسرى بالتعاون مع بعض الجمعيات الأهلية. أبناء الشهداء والأسرى بحاجة إلى الرعاية النفسية أكثر من غيرهم بسبب المعاناة. لكن مشكلتنا الدائمة نقص التمويل أما الأفكار والمبادرات فلا تنضب كما هو الحال في التمويل. انتقلنا إلى مركز البرنامج النسوي في المخيم وإذا بفرقة موسيقية من شباب وفتيات دون سن السادسة عشرة تعزف الألحان الفيروزية الرقيقة تحت إشراف مدرب من أبناء المخيم. وقد لفتت انتباهي فتاة أمريكية تلف الكوفية على عنقها وتعزف مع الفرقة آلة المزمار. قالت إن اسمها آردث سكوت جاءت من واشنطن متطوعة لمدة أربعة أسابيع لتعلم أعضاء الفرقة العزف على بعض الآلات الحديثة.. صغار ينحنون على آلاتهم الموسيقية برفق حسب تعليمات المايسترو.
تأسس المركز بطريقة غير رسمية عام 2001 ثم تحول إلى جمعية رسمية مسجلة عام 2007 كما قالت لنا السيدة ميسر عويضة، أم علاء، رئيسة المركز منذ 2005. "برامج المركز متعددة ومنوعة"، أضافت شارحة الكثير من الأنشطة التي يقوم بها المركز. "البرنامج الرئيسي هو التطريز اليدوي للمحافظة على التراث. بدأنا بتطريز أشياء بسيطة لكننا وسعنا دائرة التطريز وعندنا الآن 20 سيدة يتدربن على التطريز ونساعد المتخرجات في بدء مشاريعهن الإنتاجية الخاصة. عندنا ثلاث متفرغات على ماكينات الخياطة. وعندنا مشروع الإكسسوارات الحديثة. نأخذ الحلق أو الإسوارة ونزيرها بإطارات مطرزة فنجمع الحداثة مع الأصالة في الوقت نفسه. ولدينا مشروع المطبخ الإنتاجي حيث نقوم بتجهيز طلبات للموائد والحفلات والأعراس كي نستطيع أن نجني بعض المداخيل لتمويل نشاطاتنا. بدأنا عام 2007 مشروع الموسيقى للأطفال، لنخرجهم من الضغط النفسي. وهو مشروع ناجح بكل المقاييس كما تشاهد بعينيك". "تدير المركز لجنة من سبع سيدات. أما ميزانية الجمعية فهي تمويل ذاتي مئة بالمئة، مؤكدة، لا أحد يتمنن علينا بشيقل واحد".
يعاني مخيم قلنديا وما زال من الاعتداءات اليومية، خاصة منذ هبة الأقصى الأخيرة. ولا تمر ليلة بدون أن تسمع لعلعة الرصاص. لكنه مع هذا يتحدى الصعاب ويتمتع بإرادة من فولاذ. يبني ويغني ويدبك ويعزف لكنه يقاتل ويناضل ويعمل على صناعة فجر جديد من رحم المعاناة وشعاره الدائم، كما قال مرافقي المناضل أبو جورج، رئيس اللجنة الشعبية بالمخيم، مقتبسا محمود درويش: "نعرف كيف نمسك قبضة المنجل وكيف يقاوم الأعزل".

د. عبد الحميد صيام

٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز