في الوقت الذي يستنفر فيه الفلسطينيون على اختلاف توجهاتهم السياسية قوتهم، ويسخرون أقصى طاقاتهم، ويوظفون كل إمكانياتهم، المادية والمعنوية، والمشروعة والمشبوهة، والنظيفة والقذرة، والداخلية والخارجية، لتشكيل القوائم الانتخابية، وإعداد اللوائح والشعارات وتحديد الأسماء، تمهيداً لخوض الانتخابات البلدية، التي هي انتخاباتٌ سياسيةٌ بامتياز، وليست مهنيةً بحالٍ، مهما كذبوا ونافقوا وزيفوا وغيروا وبدلوا، وأعلنوا وصرحوا وادعو، في ظل حمأة التنافس المحموم بين الفصائل والقوى، وحملات التشكيك والتحريض والاتهام المتبادل بينهم، التي تهدد مصير الانتخابات ومسارها وشخوصها.
فإن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تستنفر جهودها أيضاً، وتستغل قدراتها وإمكانياتها، وتستعد لخوض الانتخابات البلدية الفلسطينية بهمةٍ أكبر واهتمامٍ أشد، ولكن بمسؤوليةٍ وقلقٍ كبيرين، فالأمر يهمها ويعنيها، وينعكس عليها ويؤثر على أمنها وسلامة مواطنيها، وعلى ضوء نتائجها ستبني استراتيجيتها في التعامل مع المجالس البلدية، ولهذا قد أصبح لديها فريقها المدني والأمني الخاص الذي يواكب الاستعدادات العملية للانتخابات، وهي بذلك لا تكتفي بالمراقبة والمتابعة، والرصد والدراسة والتحليل، ولا تقبل بمقعد المراقب والمنتظر لنتائج الانتخابات، وإن كانت استطلاعاتها الأمنية والإعلامية تشير إلى الجهة التي من المتوقع أن تحصد أكثر الأصوات، في حال لو أجريت الانتخابات في وقتها المحدد، ودون تدخلاتٍ خارجية، وبعيداً عن العقبات والمفاجئات، وقد نبهت السلطة وحذرتها من النتائج المتوقعة.
سلطات الاحتلال الإسرائيلي التي تحتل الضفة الغربية والقدس كما كل الأرض الفلسطينية، ليست مجرد متابع أو مراقب أو لاعب ثانوي أو في الاحتياط، بحيث يمكن الاستغناء عنها أو الاكتفاء ببديلٍ عنها، بل هي اللاعب الأهم والأساس، وهي الناظم والمحرك، وهي التي تغزل وتنكث، وترفع وتخفض، وتدخل وتخرج، وترشح وتشطب، وتنجح وترسب، وهي التي تضع العقبات وتصنع التحديات، وتشارك بطريقتها الخاصة في إعادة فك وتركيب القوائم الانتخابية، ولا ينقصها في ذلك الخبرة والتجربة، ولا تعوزها القدرة والقوة، والحيلة والخدعة.
فهي تقتحم المناطق، وتداهم البيوت، وتعتقل المرشحين والمندوبين، والنشطاء والفاعلين، وتصدر بحقهم أحكاماً إداريةٍ أو بالإقامة الجبرية، وتحاول من خلال المعلومات الأمنية التي تملكها، اعتقال الشخصيات الرئيسة المؤثرة في الانتخابات، والتي يعتبر وجودها أساسي بالنسبة لبعض القوى، كونهم الأكثر تأثيراً، والأوفر حظاً، والأحسن سمعة، والأفضل مكانة في المجتمع الفلسطيني، الذين يجتمع حولهم المرشحون، وتلتقي عليهم القوائم واللوائح، بالنظر إلى كفاءتهم وسيرتهم الحسنة، وعلاقاتهم العامة مع السكان، واختلاطهم الإيجابي بالمجتمع الفلسطيني، الذي يقدرهم ويقدمهم، ويرشحهم ويفضلهم.
قد لا تكون المخابرات الإسرائيلية هي الجهة المعنية مباشرةً بمتابعة مجريات الانتخابات الفلسطينية، وإن كانت هي أحد أهم الأدوات المستخدمة في التأثير عليها، كونها أداة الفعل القوية والمباشرة، وصاحبة اليد الطولى في الاعتقال الأمني أو الإحالة إلى الاعتقال الإداري المفتوح، فضلاً عن قدرتها الكبيرة على جمع المعلومات ورصد الحركات ومعرفة الاتجاهات، والتدخل السريع في حالات الطوارئ والضرورة القصوى، وهي التي تملك ملفاً متكاملاً عن كل فلسطيني، وليس فقط المرشحين والفاعلين.
كما أن جيش الاحتلال والمؤسسة العسكرية لا يشرف على العملية الانتخابية الفلسطينية، ولا يتدخل في تشكيل القوائم أو فكها وإعادة تركيبها، فهو قوةٌ خشنةٌ وسلطة قاهرة، وغير مؤهل لمثل هذه المهام، لكنه أداة المخابرات الفاعلة، ويده الحديدة الطويلة، التي تستخدمه لعمليات المداهمة والاعتقال، والتطويق والحصار والإغلاق، ونصب الحواجز العسكرية، وتأخير وإبطاء حركة المواطنين، ومنعهم من الوصول إلى الأقلام الانتخابية، سواء للتصويت المتأخر أو الترشيح المبكر.
وفيما يبدو أنه تنسيقٌ أمني إسرائيلي فلسطيني رفيع المستوى، تقوم الأجهزة الأمنية الفلسطينية باستدعاء واعتقال العشرات من المواطنين الفلسطينيين، من المنتسبين إلى قوى وتنظيماتٍ فلسطينية، ومن المرشحين للانتخابات والمؤهلين للفوز فيها، وقد ذكر مرشحون للانتخابات من أكثر من جهةٍ وتنظيمٍ في الضفة الغربية، أنهم تلقوا اتصالاتٍ مجهولةٍ، تحدث فيها أشخاصٌ لم يعرفوا عن أنفسهم، بلغةٍ عربيةٍ سليمةٍ لا لكنة فيها، حذروا فيها المترشحين من مغبة الاستمرار في ترشيح أنفسهم، ودعوهم إلى عدم ترشيح أنفسهم حرصاً على حياتهم وحياة أسرهم وأفراد عائلاتهم.
رغم أن الشهود لم يحسموا في هوية المتصلين، أهم من المخابرات الإسرائيلية، إذ عندهم من يتحدث العربية بطلاقة أهلها وفصاحة أبنائها، دون لكنةٍ تميزهم، أم هم من المخابرات العامة الفلسطينية، وفي كلتا الحالتين فإن هذا التدخل السافر في سير الانتخابات، وتهديد المرشحين بخوضها، يشير إلى دور إسرائيلي أمني متفق عليه، يهدف إلى لي أعناق المواطنين، والتأثير الكاسر على نتائج الانتخابات، لتأتي نتائجها بما يرضيها ويلبي أغراضها، ويجعلها تحت السيطرة الكاملة.
إنه يؤاف مردخاي رئيس الإدارة المدنية في الضفة الغربية المسؤول الأول عن العملية الانتخابية، المكلف بإدارة شؤون الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو منسق وزارة الحرب الإسرائيلية، الذي يتابع ويرصد ويراقب، ويعرف مكامن الخطر الحقيقية في النتائج النهائية للانتخابات، الذي يلتقي الفلسطينيين ويجتمع بالنخب، ويحاور المسؤولين والعامة، ويختلط كثيراً بالسكان الذين يلجأون إليه لقضاء حاجاتهم وتسهيل مهماتهم، ويعرف الكثير عن هموهم وشجونهم، ويستمع إلى مطالبهم وشكواهم.
ولهذا فقد حذر السلطة الفلسطينية من خطورة إجراء الانتخابات البلدية في هذا الوقت بالذات، وأكد أن الفائز فيها لن يكون من المؤيدين للسلطة، بل إن خصومها حتماً هم الذين سيفوزون، وسيكون لفوزهم نتائج كبيرة ومباشرة على الحياة في الضفة الغربية، وستطال نتائجها جوانب مهمة في حياة السكان، وستقود إلى تدخلاتٍ عسكرية إسرائيلية عنيفة في حال الإحساس بأن الأوضاع في الضفة الغربية ستؤول إلى ما أصبحت عليه في قطاع غزة، ولهذا فقد رأى أن قرار رئيس السلطة الفلسطينية بإجراء الانتخابات البلدية في هذا الوقت بالذات مغامرةٌ كبيرةٌ، ومقامرةٌ غير مضمونة النتائج.
يرى يؤاف مردخاي وفريقه في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وجوب التدخل السريع لإنقاذ المشهد السياسي الداخلي الفلسطيني من كارثةٍ كبيرةٍ ستمتد آثارها إلى المجتمع الإسرائيلي كله، الذي بات يخشى من أنفاق المقاومة العسكرية، التي اخترقت الأرض ووصلت إلى البلدات والمستوطنات الإسرائيلية، ولكن فوز حركة حماس وقوى المقاومة الفلسطينية الأخرى المتحالفة معها، سيقود إلى خلق أنفاقٍ سياسية في الضفة الغربية، وسيكون ضررها أكبر بكثير من الأنفاق العسكرية، حيث سيصبح لحركة حماس وغيرها وجود شرعي كبير، ومتغلغل في مختلف مدن وبلدات الضفة الغربية، ومنها ستستهدف حماس من جديدٍ مدن ومستوطنات الغلاف، وستكون الكارثة هنا أكبر بكثير من الكارثة على حدود قطاع غزة.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 20/8/2016
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]