يَبرُزُ للمهتم بقراءة الأدبيات التأصيلية للصراع العربي والفلسطيني – الإسرائيلي البحث في فوضى المصطلحات التي لازمته منذ القرن ونيف، حيث إتخذت فكرة الصراع معانٍ وأهداف ووسائل مختلفة سواء من طرف العرب والفلسطينيين أو من طرف الصهيونية والتي تحولت لاحقاً إلى دولة إسرائيل. ومن هنا تحاول هذه المقالة تفكيك الفوضى الإصطلاحية التي يعيشها الفلسطينييون حول مفهومي "إحتلال أو إستعمار" وتقديم قراءة حول تأثير النخب السياسية على صياغة وعي جمعي حول مصطلحات الصراع التأصيلية على مدار العقود الماضية.
في إطار ما يُصطلح على تسميته "احتلال" يُعَرَفُ؛ كونه العملية التي يقوم بها جيش دولة بالسيطرة على أراضي دولة أخرى قهراً أو غزواً أو حرباً، وقد ورد في المادة (42) من اللائحة الملحقة بإتفاقية لاهاي لعام 1907 بأن حالة الاحتلال هي الحالة التي "يُعتبر فيها الإقليم أو الحيز المكاني محتلاً عندما يصبح فعلاً خاضعاً لسلطة الجيش المعادي، ولا يمتد الاحتلال إلا إلى الأقاليم التي تقوم فيها هذه السلطة وتكون قادرة على تدعيم نفوذها" وَيُوسَمُ الاحتلال كونه أحد أشكال الإستعمار وأكثرها وضوحاً وقدماً وأكثرها إثارةً للشعوب المستعمرة.
وعلى الجانب الآخر نجد أن تأصيل كلمة إستعمار تعبر عن مجموعة السياسات والممارسات السلطوية التي تأتي في إطار قيام دولة بالهيمنة على دولة أخرى وسلب مُقدراتها وثرواتها الاقتصادية والثقافية، وقد استخدم المصطلح منذ ما يقارب 500 عام وذلك للتعبير عن وصف عملية السيطرة الأوروبية على بقية العالم بما في ذلك الأمريكيتين وأستراليا وأجزاء من أفريقيا وآسيا، والتي أنتهت مع ظهور حركات التحرر الوطني في العالم.
أما الاستعمار الإستيطاني Settler Colonialism هي عبارة عن قيام دولة بالسيطرة على الأرض من سكان البلاد الأصليين وإستغلال السكان وطردهم وتهجيرهم من أرضهم، وعليه فإن الحالة الإستيطانية الاستعمارية تهدف إلى تفريغ الأرض من سكانها، ويلحق ذلك عملية نقل سكان الدولة الإستعمارية إلى أرض السكان الأصليين، ويستكمل في وسم الطبيعة العنصرية للاستعمار الاستيطاني من إيمان المستوطنين بتفوقهم الحضاري واحتقارهم للسكان الأصليين، وشعورهم بالتفوق عليهم وتمدينهم بالقوة.
ودونما الخوض في الأشكال والأهداف والممارسات الخاصة بكل منهما، فإن خصوصية الصراع العربي والفلسطيني – الإسرائيلي حمل شكلاً مختلفاً عن غيره من الحالات الإستعمارية السابقة، حيث مرَ "الاستعمار الاستيطاني الإحلالي العنصري" وهي التسمية الأقرب للصواب في تفسير ظاهر الشكل الحالي للممارسات الإسرائيلية على فلسطين والفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة والقدس والأرض المحتلة عام 1948 والشتات، وقد مر الصراع بعدة مراحل ساهمت تدريجياً في تفسير الشكل هذا الفريد الذي يعبر عن كونه جوهر الحركة الصهيونية وإسرائيل لاحقاً.
فقد مثلت الصهيونية منذ القرن التاسع عشر وصولاً إلى العام 1947 المرحلة الأولى من مراحل الاستعمار الاستيطاني الإحلالي كونها قامت على إخلاء وطرد وتهجير ومصادرة أراضي السكان الأصليين وبناء مستعمرات لليهود الذين هاجروا من معظم بقاع العالم إلى فلسطين، وعليه إتضحت طبيعة الممارسات في ذلك الحين، وكان أبرز هذه الممارسات قيام العصابات الصهيونية في عام 1907 بإخلاء وتشريد ما يقارب من 60 ألف فلسطيني من أرضيهم في قرية مرج بن عامر وإستبدالهم بمهاجرين إلى فلسطين هذا إلى جانب ممارسات أخرى جرت لاحقاً.
وقد شهدت المرحلة الثانية من العام 1948 لغاية العام 1966 وهي أخطر مراحل الصراع شكلاً تطور فيه مفهوم "الإحلال" وذلك عبر تهجير ما يقارب من 700 ألف فلسطيني من قراهم ومدنهم إلى جانب قيام حكم عسكري مُلحق بمجموعة من اللوائح والقوانين والأنظمة بهدف الإستيلاء على الأراضي وتحويل التجمعات السكانية إلى مناطق معزولة، وفي المراحلة التي تلتها شكلت حرب العام 1967 شكلاً جديداً آخر كونها إستمرت كإستعمار استيطاني إحلالي إلى جانب ظهور شكل "إحتلال" وذلك كون الفعل الذي قام به الجيش في ذلك الوقت هو استكمال عملية القتل والتهجير والطرد والنفي للفلسطينيين الموجودين في أراضي فلسطين التاريخية إلى خارجها، بالإضافة إلى السيطرة على آراضي عربية كالجولان وصحراء سيناء.
وقد أشرت لذلك في مقال سابق بعنوان "نكبة فلسطين الثانية" بأن أي تعاطي للنكبة والنكسة سيكون ناقصاً دونما فهم وربط الأحداث بسياقين تاريخيين متلازمين ومؤسسين للفعل منذ اليوم الاول للصهيونية، وهما ترحيل وطرد الشعب الفلسطيني من أرضه، والثاني ترحيل وطرد اليهود من كل بقاع العالم إلى فلسطين، وعليه فإن العام 1967 شهد تحولاً في شكل الصهيونية لغاية اليوم وهو الإنتقال من استعمار استيطاني إلى استعمار استيطاني إحلالي يقوم الجيش فيه بعملية حماية المستوطنات والمستوطنين، إلى جانب نهب الثروات الوطنية كالأرض والمياه وصولاً إلى إستغلال الأيدي العاملة الفلسطينية.
وعلى ذلك يعرض إيلان بابيه في كتابه الصادر مؤخراً " Similarities between South Africa and Israel" والذي قام بتقديمه في ندوة عُقدت في مدينة الناصرة في أن الشكل الحالي لإسرائيل يُرغم الفلسطينيين على تقديم قراءة تصورية جديدة لشكل الحلول خصوصاً أن حل الدولتين بات وهم، ويدعو فيه الفلسطينيين إلى تغيير قرائتهم لشكل الصراع وضرورة البحث عن تأصيلات مفاهيمية إصطلاحية جديدة خصوصاً أن أزمة الاستعمار الاستيطاني الاحلالي واجهت مأزق حقيقي حينما تحولت إلى شكلها الرابع والأخير التي هي عليه الآن وهو "العنصري" حيث أن الممارسات العنصرية جاءت كرد فعل على إفشال الشعب الفلسطيني عبر صموده ومقاومته في الأرض لجميع الممارسات التي مورست بحقه.
وفي إطار قراءة الوعي الجمعي لإصطلاحات الصراع التأصيلية، أستحضر هنا إقتباس لغرامشي "أن الأزمة تحديداً تتمثل في حقيقة أن القديم يحتضر والجديد لا يستطيع الولادة؛ وفي هذا المدى الإنتقالي يظهر الكثير من الأعراض المرضية" وعليه فإن أزمة النخب السياسية الفلسطينية الحالية لا تقتصر فقط على تحديد موقعها في أي مشروع تحرري فلسطيني إنما على تأصيلها لمرادفات شكل الصراع، وذلك يعود للأزمة التي تلاحق تفكك الحركة الوطنية الفلسطينية وفقدانها السيطرة على صياغة إستراتيجية تحرر واضحة وذلك، يعود أيضا للأزمة الفكرية في صياغتها لمشروع يعتمد على وسائل نضالية في ظل تحول المفاوضات إلى إستراتيجية تحرر والمقاومة المسلحة إلى رد فعل ورفض إستراتيجية المقاطعة.
ويشير إيلان بابيه أنه «في الوقت الذي نتوقف به عن إستخدام كلمة احتلال ونستخدم كلمة استعمار ويتم وقف استخدام كلمة تسوية واستخدام تفكيك النظام الاستعماري؛ حينها سيكون هناك فرصة أفضل من أجل وقف الصراع" حيث أن نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا انتهى بينما في إسرائيل لا زال موجود وفي أوجه، وذلك يؤكد ضرورة وقف أزمة خطاب النخب السياسية والبحث عن خطاب سياسي ناجع يساهم في رفع مستوى الوعي الجمعي الفلسطيني حيث أن النضال والكفاح الوطني الفلسطيني هو الجامع الوحيد لكل الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني والضفة الغربية وقطاع غزة والشتات حول أهداف الحرية وتقرير المصير والمساواة الكاملة.
وهذا ما يوجب على هذه النخب الإتفاق على خطاب يضمن للشعب حق تقرير مصيره، ويأتي ضمن أسس ديمقراطية لمشروع وطني فلسطيني جديد قائم على المقاطعة والأنسنة والحريات، يشمل برنامجاً سياسياً موحداً، واستراتيجية تحرر وطني تضمن حق العيش الكريم للمواطن الفلسطيني.